محاكمة وزراء الحسن الثاني
قيل إن المغرب ركب قطار التنمية منذ فجر ستينات القرن الماضي، إذ انطلقت الإصلاحات آنذاك بخطى بطيئة لكن ثابتة، لكن محاكمة الوزراء والموظفين السامين السابقين في فجر السبعينيات أزاحت الستار عن الواقع، حينئذ سقطت الأقنعة وانكشف واقع الفساد والنهب والرشوة واستغلال النفوذ واختلاس أموال الشعب والسطو على ممتلكاته.. علما أن الشعب المغربي كان قد عقد الأمل الكبير على تلك المحاكمة (سنة 1971)، الفريدة من نوعها في تاريخ البلاد، إذ رأى المغاربة أنها ستكون انطلاقة فعلية لمغرب آخر جديد، مخالف للمغرب الذي لوث سمعته ثلة من صناع القرار، إذ أن بعض خريجي المدارس الفرنسية العليا، كانوا أباطرة النهب والفساد، لكن سرعان ما لاحظ المغاربة أنها مجرد سحابة صيف تبخرت بسرعة، وظل الفساد ينخر جسم البلاد والرشوة تستشري فيه بموازاة مع استبداد القمع الشرس وتعميم التنكيل والدوس على الكرامة الإنسانية وانتهاك حقوق الإنسان والمواطنة على امتداد فترة طويلة من تاريخ المغرب المعاصر السعيد.
فكيف انطلقت محاكمة وزراء الملك الراحل الحسن الثاني، التي كانت الأولى والأخيرة من نوعها؟ من هم أبطالها؟ وماذا كان مآلها؟
على سبيل البدء
في بداية سنة 1971 بدأ المغرب يهتز لقضايا الرشوة التي افتضح أمرها وقضايا أخرى في طور كشف الستار عنها، آنذاك برزت المطالبة بسن قانون "من أين لك هذا؟" ولما انكشفت فضيحة عمر بنمسعود اهتزت عدة أنحاء من العالم لأخبار الرشوة التي تناسلت وتفاحشت بالمغرب، ونشرت صحف كثيرة، بفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وبقية أنحاء أوروبا، أخبارا وتعاليق عن فضائح الفساد والرشوة ببلادنا، آنذاك كان القائمون على الأمور يصادرون الصحف المغربية التي تطالب بإصلاح حقيقي أو تفضح بعض الوقائع والنوازل، وعلى سبيل المثال لا الحصر، صادرت الحكومة جريدتي "الرأي"، الصادرة بالفرنسية و"العلم" لأنهما تطرقتا لموضوع الرشوة والفساد في 28 غشت 1971.
وخلال شهر رمضان الذي تزامن مع خريف 1971 عاش الشعب نشوة، لكنها نشوة سرعان ما تبين أنها عابرة، تلاها الإحباط، وهي نشوة محاكمة وزراء وموظفين سامين سابقين بعد أن انكشف أمر تورطهم في قضايا الفساد والرشوة والاختلاس واستغلال النفوذ والاغتناء على حساب الشعب وأجياله القادمة.. حيث امتصوا دماءه ليراكموا الملايير التي هربوها إلى الخارج بعد أن جلدوا المغاربة بسوط فسادهم واستغلال نفوذهم في السر والعلن.. استغلوا الأوضاع وانتهزوا الفرص وركبوا على تضحيات الشعب المغربي وحرمان فئات واسعة منه على امتداد سنين طويلة، متلاعبين بآماله التي لطالما حَلُمَ بها منذ حصول البلاد على الاستقلال الأعرج بعد مفاوضات فعل فيها المتعاملون والخونة فعلتهم.
إن ما عرف بمحاكمة الوزراء في واقع الأمر لم يقتصر على الوزراء وكبار الموظفين السابقين وإنما تعداهم إلى بعض الصناعيين ورجال الأعمال، الذين عبثوا في أموال الشعب وفي البيع والشراء في ثرواته الوطنية، وقد حققوا مكاسب ضخمة.
ففي بداية السبعينيات لم يكن التصدي للرشوة والفساد ينطلق من دافع أخلاقي في حدّ ذاته، وإنما بدافع سياسي فرضته ظروف خاصة تميزت بتزعزع كيان النظام الملكي، وكانت هذه الزعزعة قد تزامنت مع وجود معارضة قوية وترد سافر للأوضاع واحتكار صارخ للسلطات وتهميش وإقصاء ممنهجين لفعاليات وكفاءات المتجمع المغربي وإبعاد النخبة التي وجدت نفسها أمام ضرورة تحمل مسؤوليتها التاريخية، في جو شعر فيه المغاربة بإحباط كبير وعاينوا اغتيال كل انتظاراتهم منذ الاستقلال، وبكلمة واضحة كان المغرب في أوج سنوات الجمر والرصاص، وفي ظل هذا الجو العام تم توظيف محاكمة الوزراء والموظفين السامين السابقين لتخفيف وطأة غضب الشعب واستيائه، وذلك ربحا للوقت قصد إعادة ترتيب أمور البيت الداخلي وتجديد إرساء دعائم الطبقة الحاكمة، آنذاك كانت البلاد لاتزال تعيش على آثار انقلاب الصخيرات الفاشل.
ومهما يكن من أمر فقد شكلت هذه المحاكمة حدثا لم يسبق للمغرب أن عرف مثيلا له، إذ بدأت الاعتقالات وطال التحقيق وأخذ الرأي العام يتساءل بإلحاح عن مصير المتابعات، وهل سيذهب البحث والتقصي إلى مداهما.. وتناسلت الإشاعات والتساؤلات بفعل صمت الدولة، قيل إن شيئا قد حصل وإن هناك قرارا بتوقيف العملية.. وأنه حصل اتفاق في السر مع بعض الهيئات السياسية لطمس الملف، وفي هذا الصدد تساءل الصحفي مصطفى العلوي: "المنجل الذي ابتدأ عملية حصد الرشوة والفساد قد حفا بمجرد ما حصد عشرين ملفا.. أم أن هناك رغبة في تمضية حده ليستأنف عمله بسرعة أكثر وفعالية أكبر؟"
بعد انفضاح أمر الوزراء المرتشين طلبت عدة جهات بإلحاح، التقصي بخصوص ملفات أخرى تتعلق بمجالات أخرى، كقضية الأراضي المخصصة لبناء دور السكنى للموظفين، وقضية مكاتب الري والأراضي المسترجعة وأحوال تصفيتها، ومسألة تصدير واستيراد الفوسفاط والحبوب والخمور والحوامض.. وذلك باعتبار أن القضاء على الرشوة واستغلال النفوذ آنذاك كان يتوقف على استمرار البحث والتقصي ليشمل مختلف المكاتب العمومية والإدارات والوزارات.
آنذاك كان اعتقال الوزراء والموظفين السامين السابقين، قد وضع مشكلة الفساد والرشوة من أساسها على بساط البحث، كونها مشكلة أساءت إلى سمعة المغرب، أخلاقيا واقتصاديا وسياسيا.
وقتئذ بدأ الشعب يضج من عناء الرشوة التي تغلغلت في حياته اليومية، آنذاك بدا أنه من المستحيل حماية الشعب من المرتشين الصغار، في حين أنه يوجد في مراكز المسؤولية مرتشون كبار، علما أن الاحتياط ضد انتشار آفة الرشوة كان محط عناية كبيرة من طرف الحكومة الوطنية الأولى، إذ أن وزارة الاقتصاد الوطني سنة 1960 قدمت مشروع قانون يحتم على كل موظف أو مستخدم في القطاع العام أن يقدم هو وزوجته بيانا عن كل ما يملك ويفرض عليهما تحقيقا في موضوع أملاكهما كلما اقتضى الأمر ذلك (وهذا ما يعرف اليوم بالتصريح بالممتلكات)، إلا أن هذا القانون ظل حبيس الكتابة العامة للحكومة ولم يدرس حتى في مجلس وزاري، وأعادت وزارة الاقتصاد الكرة في سنة 1961، ورغم ذلك لم ير هذا المشروع النور. علما أن محكمة العدل الخاصة أنشئت سنة 1965 لمحاكمة المرتشين ولم تقدم لها إلا قضايا تافهة تتعلق بصغار المستخدمين.
اهتم إذن الرأي العام المغربي وفي الخارج أيضا بتطورات قضايا الرشوة التي تورط فيها وزراء من الحكومة التاسعة، وأكد الخطاب الرسمي آنذاك أن محاكمة الوزراء والموظفين السامين السابقين أتت في نطاق تطهير البلاد من داء الرشوة والفساد اللذان شوها سمعة المغرب، إلا أنه تم التعتيم على القضايا والملفات المعروضة على بساط التقصي، إذ ساد صمت مطبق بخصوص الأفعال المرتكبة والتجاوزات المقترفة، وكان الحرص على أشده حتى لا تتسرب المعلومات لأن الأمر لم يكن مرتبطا بأشخاص فاسدين وإنما بنهج حكم وتدبير..
ولو لم تكن هناك جهة أجنبية معنية (بانام الأمريكية) لما انفجرت فضيحة الوزراء، لكن بعد انكشافها كان لابد من تدبيرها والتحكم فيها، ليس في إطار رغبة صادقة في الإصلاح والتطهير، وإنما في إطار مساومات وموافقات، لهذا ظل الفساد والرشوة يضربان أطنابهما في المغرب السعيد إلى حد الآن، فكان من الطبيعي أن لا ننتظر اعترافا بفشل تدبير الحكم ونهجه، هذا ما جعل القائمين على الأمور يعملون على مرور العاصفة بأقل ضرر ممكن، ما دامت الإرادة الحقيقية قد غابت في الإصلاح والتطهير، رغم أن المغرب، كان آنذاك، بحاجة ماسة، أكثر من أي وقت مضى إلى حكومة قوية شعبية تستطيع أن تجابه مشاكلنا الوطنية بحزم وعزم وبكامل الثقة بالنفس، وفي نظر البعض آنذاك، حكومة من هذا القبيل لابد أن تكون مشكلة من شطرين أحدهما يتألف من شخصيات بارزة يضطلعون بالرأي والتفكير، أما الشطر الثاني فيتألف من فنيين أكفاء يضطلعون بالتسيير حينئذ اقترح البعض محمد الشرقاوي كوزير أول، وعبد الكريم بن جلون وزيرا للعدل والصديق الصالحي وزيرا للأشغال العمومية، والتهامي عمار وزيرا للفلاحة والأميرة لالة عائشة وزيرة الإنعاش الوطني والشؤون الاجتماعية.
محاكمة سنة 1971.. لم يتكرر مثلها
إن نازلة متابعة الوزراء والموظفين السامين السابقين سنة 1971 هي بالأساس قضية رشوة واستغلال النفوذ واختلاس أموال الشعب والإثراء الفاحش على حساب الوطن والمواطنين وكدحهم وحرمانهم من حقوقهم الأكيدة؛ بدأت المتابعات في مارس 1971، في وقت كان بعض المتهمين قد عزلوا من مهامهم.
لكن كيف انطلقت هذه المحاكمة؟
هناك رواية راجت بكثرة بهذا الخصوص، مفادها أنه قبل انقلاب الصخيرات بشهور، كلف الملك الراحل الحسن الثاني المذبوح بمهمة خاصة بالولايات المتحدة الأمريكية، تحت غطاء تهيئ الزيارة الخاصة لأمريكا التي كانت مقررة في الأسبوع الأخير من شهر أبريل 1971، علما أن المهمة الحقيقية كانت هي البحث عن الأسباب الحقيقية لغضب واشنطن من المغرب.
وحسب مجلة "إكسبريس" الفرنسية، تمكن المذبوح من معرفة السبب بسهولة، إذ أن الأمر تعلق بصفقة اقتناء قطعة أرضية لإحداث فندق كبير من طرف شركة "بانام" الأمريكية، ومن الأفكار التي راجت كثيرا في ربيع 1971 إن الجنرال محمد أوفقير هو الذي أعطى الأمر لفتح ملف قضائي واعتقال ثلة من الوزراء والموظفين الكبار السابقين ووضع بعض عناصر اللوبي اليهودي المغربي البارزين تحت المراقبة، لاسيما دافيد عمار والإخوان أوحنا وسويسة.
بدأت الجلسات يوم الأربعاء فاتح دجنبر 1971، أي أربعة أشهر ونصف بعد فشل المحاولة الانقلابية العسكرية بالقصر الملكي بالصخيرات خلال صيف نفس السنة، وكان على محكمة العدل الخاصة النظر في حوالي ستمائة ملف خاص بالفساد، أغلبيتها الساحقة قضايا صغيرة لكنها مرتبطة بشكل أو بآخر بالقضايا الكبرى التي أبطالها وزراء وموظفون سامون سابقون ورجال أعمال وشخصيات وازنة.
لقد ظن المغاربة مع بداية المحاكمة أن سيرورة إصلاح قد انطلقت للتصدي للظلم والرشوة، وضد ضياع ثروات الشعب المغربي ونهبها وضد تدني ظروف المعيشة، وضد قلة المدارس وضد قلة المستشفيات.. لكن الرشوة والفساد لازالا يمثلان جزءا من نهج تدبير الأمور حتى بعد تلك المحاكمة التي اعتبرت أكبر محاكمة همت مسؤولين في تاريخ المغرب.
شكلت هذه المحاكمة أول محاكمة تورط فيها صناع القرار بالمغرب الحديث، وفي هذا الإطار سبق لقيدوم الصحفيين المستقلين، مصطفى العلوي، أن كتب في خريف 1970 في زاويته المشهورة "الحقيقة الضائعة".. "إن المغرب محتاج لأن يزود بحكومة يعيش وزراؤها بالقرب من مشاكله.. فلقد بلغ البعد بين الشعب ووزرائه حدا جعل الوزراء لا يمشون على الأرض.. كفانا من وزراء يلعبون "البوكير" حتى الرابعة صباحا ويذهبون لمراقبة أشغال بناء الفيلا ثم يعرجون على الضيعة لتفقد أحوالها، وفي المساء يتحلقون مرة أخرى حول طاولة "البوكير".. كفانا من وزراء يمضون لساعات في الطريق بين الرباط التي يعملون بها في شؤون الدولة، والدار البيضاء التي يعملون بها في شؤونهم الخاصة.." وهكذا دواليك.
لكن في سنة 1971 اجتمع ثلة من الوزراء الذين كانوا يلعبون خلف أسوار سجن لعلو ووراء قضبان زنازينه.
تناوب على قفص الاتهام أشخاص بارزون في هرم السلطة، إذ كان هناك الوزير والكاتب العام والمدير والقنصل ورئيس قسم أو مصلحة ورجل الأعمال.. موظفون سامون ودبلوماسيون.. ولكن كذلك أعوان مصلحة، للمحاسبة والمساءلة بخصوص مئات الملفات وعشرات الصفقات والقضايا الكبرى انكشف أمرها في بداية السبعينيات، على رأسها قضية "بانام" التي شكلت النقطة التي أفاضت الكأس، وفضيحة إعادة بناء أكادير بعد الزلزال، وفضيحة صندوق الإيداع والتدبير، وفضيحة نفط لاسامير، وفضائح صفقات الأوراش الكبرى في مختلف القطاعات والمجالات.
قبل صدور الأحكام تناسلت أخبار كان مصدرها وزارة العدل، مفادها أن الأحكام ستتراوح بين 5 و20 سنة سجنا نافذا وغرامات مالية تقدر ما بين ألف و10 آلاف درهم، إلا أن الأحكام المنطوق بها كانت أقل من هذا.
وإذا كانت الاعتقالات، لاسيما اعتقال بعض الوزراء والموظفين السامين السابقين، قد أثلج الصدر لفترة قصيرة من الزمن، فإنه سرعان ما تبين أن ثمة انعكاسات سلبية دفع ثمنها الشعب ولم يدفعه الراشون والمرتشون والفاسدون والمختلسون والمستغلون للنفوذ ومخربو الاقتصاد الوطني. ففي واقع الأمر كانت التأثيرات التي خلفتها محاكمة 1971 أكثر وضوحا من انقراض الرشوة والفساد والاختلاس، ففي الإدارات العمومية أصبح القائمون على أمورها ورؤساء أقسامها ومصالحها يتفادون الإمضاء.. وتراكمت الملفات بفعل تجنب المسؤولين تحمل مسؤولياتهم كاملة مع سيادة الحيطة والحذر، أما المعاملات الكبرى على مستوى الصفقات الضخمة والمقاولات، قد عرفت ركودا بل تراجعا لم يسبق أن عاينه المغرب من قبل، إذ تجمدت حركتها وكادت تصاب بالشلل.
اعتقد الكثيرون أن كل من الجنرال محمد أوفقير والمذبوح أرادا استغلال محاكمة الوزراء لصالحهما في محاولة مبيتة للنيل من النظام ومن الملك رغم أنهما كانا على علاقة وثيقة بالمتابعين وباللوبي اليهودي الذي بصم كل الصفقات الكبرى المشبوهة تقريبا.
كانت محاكمة الوزراء لسنة 1971، في نهاية المطاف، ذرا للرماد في العيون لكنها سمحت باستخلاص جملة من الدروس، إذ أظهرت بوضوح لم يسبق له مثيل، أن الوطنية بالمغرب خضعت للبيع والشراء، فبعد الاستقلال الأعرج، عندما كانت دولة المغرب في حاجة ماسة إلى أطر ومسؤولين، كان الكثير من أبناء الخونة وعملاء الأمس يشترون بالملايين صفة "الوطني" و"الوطنية"، إما عبر شهادات أو تزكيات مزورة لزعماء الأمس ليتمكنوا بواسطتها من منصب وزير أو مدير أو سفير أو مسؤول كبير.. آنذاك لم يكن للشعب المغربي ناقة ولا جمل في الحكم وأموره، كان حاضرا لمجرد الديكور والتأثيث ليس إلا، ولم يكن لديه ممثلون ولم يكن من حقه آنذاك سوى الوعود تلو الوعود بواسطة الخطابات الرنانة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
كما كشفت محاكمة الوزراء أن الذين ظلوا يدورون في فلك الحكومة من وزراء ومديرين وأقاربهم، أوتوا إمكانيات ووسائل الغنى واحتكار المناصب والثروات، وظلت قلة من المغاربة تتراقص بالتناوب على المناصب وخدمة المصالح، وبعد مغادرة الوزارة يقوم الوزير بخلق شركة أو شركات في "رمشة عين" لأنه يجد دائما صهرا أو قريبا على رأس هذه الوزارة أو تلك أو مسؤولا كبيرا بها، وهكذا ظلت الثروات تدور في دائرة محدودة بين عائلات معروفة، منها بن جلون وبن كيران والعراقي والسبتي وآل الفاسي وغيرها من العائلات التي اغتنت بفضل الدولة وعبرها، إلى أن أصبحت المصالح والمناصب متوارثة بين أناس يتصاهرون ويتناسبون ذرا للرماد في العيون للحفاظ على إحكام دائرة النفوذ حولهم دون سواهم.
هذه بعض الدروس التي استخلصها المغاربة من محاكمة الوزراء سنة 1971.
الوزراء المعتقلون
كان الوزراء الذين اعتقلوا من الحكومة التي ترأسها الدكتور أحمد العراقي، وكانوا قد أقيلوا في أواخر شهر أبريل 1971، وهؤلاء هم: مامون الطاهري وعبد الكريم الأزرق ومحمد الجعايدي ومحمد العيماني وعبد الحميد كريم، علما أن حكومة العراقي غُيّرت في أوائل غشت 1971، بعد أقل من شهر من انقلاب الصخيرات.
هؤلاء وغيرهم، كان من معهم يتصرفون في ميزانية الدولة وأموال الشعب بجرة قلم بدون حسيب ولا رقيب، وأحيانا بمباركة القائمين على الأمور، وكان الجميع يعلم علم اليقين، أن اعتقال المسؤولين الكبار السابقين سيحدث ضجة في العالم.
كان كبار المسؤولين الذين أودعوا بسجن العلو وزراء يركبون المرسديس وينامون على الحرير ويمشون على الزرابي الأصباهنية، وهذا ما استحسنه المغاربة في بداية الأمر.
اعتقل يحيى الشفشاوني، وزير الأشغال العمومية ومدير مكتب الأبحاث والمساهمات المعدنية، عندما نزل من الطائرة قادما من فرنسا مساء الاثنين فاتح نونبر 1971، فعندما بدأت الاعتقالات في صفوف الموظفين الكبار كان الشفشاوني آنذاك في الديار الفرنسية، ثم سافر إلى لندن وعاد إلى باريس، ورغم أن بعض أصدقائه قد نصحوه بالعودة إلى المغرب رفض، وحينما بلغ إلى سمعه بيان الإذاعة المغربية بخصوص الاعتقالات أفهمه بعض رجال الشرطة السرية الفرنسيون أن من مصلحته مغادرة التراب الفرنسي والعودة إلى بلاده، وهذا ما كان.
وظهر تورط محمد العيماني، وزير الأشغال العمومية كذلك والمندوب السامي لبناء أكادير في جملة من صفقات الطرق والقناطر والسدود والنقل، وكذلك في ملف المندوبية السامية لإعادة بناء أكادير بعد الزلزال، وهما من أضخم الملفات التي عرضت على أنظار المحكمة.
ارتبط اسم هاذين الوزيرين بالمقاول عبد الرزاق الأبيض الذي كان له إلمام كبير بمقاولات وزارة الأشغال العمومية، علما أنه لم يكن المقاول الوحيد المتورط في قضايا الرشوة والاختلاس واستغلال النفوذ، إذ كان هناك مقاولون آخرون على اتصال وثيق بالوزيرين.
ومن ضمن الموظفين السامين هناك ناصر بلعربي الذي اتجه إلى الديار الفرنسية وطالبت السلطات المغربية بعودته إلى المغرب، احتل عدة مناصب، منها منصب مدير ديوان عبد الله إبراهيم، عندما كان وزيرا أولا، وكان حاضرا خلال جلسة تسليم المهام بين الوزير الأول والملك الحسن الثاني (ولي العهد آنذاك)، عندما عمل على فرض إعفاء أول حكومة وطنية عرفها المغرب على عهد والده الملك الراحل محمد الخامس في ربيع 1960، آنذاك كان الملك الحسن الثاني قد قال للوزير الأول قبل إقالته، حسب رواية هذا الأخير: "أمولاي عبد الله راك أنت اللي واقف لي في الطريق.. راه كاع المغاربة كلهم نشريهم بفلوسي.."، بعد تسليم المهام اتجه الملك الحسن الثاني إلى ناصر بلعربي، وقال له آمرا: "يجب عليك أن تبقى في منصبك إلى جانبي"، لكن ناصر بلعربي التمس إعفاءه".
وفي غضون 1971 اعتقل بتهمة الفساد المالي وأدانته المحكمة، لكن بعد قضاء جزء من العقوبة منحت له مسؤولية تسيير شركة كبرى على سبيل إعادة الاعتبار، وكذلك الأمر بالنسبة لأحمد بن الراضي الذي كان مديرا لديوان وزير الفلاحة عندما كان محمد بركاش وزيرا للفلاحة، ثم مديرا لصندوق المقاسة.
اليهود المغاربة المتورطون
من اليهود المغاربة المتورطين في محاكمة الوزراء، هناك "دافيد عمار" والإخوان "أوحنا" و"بيرنار ليفي"، و"سوسان"، و"مانتو" شريك "باروخ دهان"، وهما اللذان توجها إلى كندا ثم إلى إسرائيل وأخذا معهما أموال جملة من الأغنياء المغاربة الذين وضعوا بهما ثقتهم، ومن اليهود المتورطين كذلك "سويسا" الذي كان يوجد مكتبه بشارع علال بنعبد الله بالرباط.
فما استغرب له المغاربة أن كل اليهود المتورطين في فضيحة الوزراء تواجدوا بالخارج، دفعة واحدة، قبل صدور الأوامر باعتقالهم.
في دجنبر 1971 صدر أمر دولي باعتقال أحد رجال الأعمال اليهود المغاربة يدعى "مانتو"، وليس "مانتو" هذا الوحيد الذي تمكن من مغادرة التراب الوطني قبيل الاعتقال، فقبله هرب "ماكس لوب"، عضو المجلس البلدي بالدار البيضاء، في المكتب الذي كان يترأسه المعطي بوعبيد آنذاك.
ومن مكر التاريخ أن محاكمة اليهود المغاربة المتورطين في فضيحة الوزراء، وأغلبهم من جبابرة الثروة اليهودية بالمغرب، تمت بمكان غير غريب عنهم، بل خبروا أرجاءه وزواياه أكثر من مرة، إذ أن مقر محكمة العدل الخاصة سبق وأن كان مقرا للمحكمة اليهودية الكائنة قرب ضريح محمد الخامس بحي حسان بالرباط، والذي تحول إلى مقر للمعهد القضائي قبل أن يحتضن محكمة العدل الخاصة.
"دافيد عمار":
لم يكن "دافيد عمار" غريبا عن فضاء رجال الأعمال بالمغرب، لقد حول مائدته إلى ركح لعقد الصفقات المريبة، وكان أول محتكر لتجارة الحبوب وأول مستورد لها، وتقوى نفوذه السياسي بعد الاستقلال بتأسيس جمعية الوفاق التي كانت تضم جميع رجال الأعمال اليهود المغاربة، ولم يتوقف نشاط هذه الجمعية إلا بعد أمر الباخرة "بسيس" التي كانت ستهرب جماعة من اليهود المغاربة إلى إسرائيل، لكنها غرقت في عرض البحر ولقي عشرات اليهود العجزة والصبيان حتفهم.
كما أن "دافيد عمار" وظف صداقاته مع الأعضاء المؤسسين لجبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية (لفديك)، إذ عبرها وبفضلها حصل على منصب مستشار وفتح مكتب الاستشارة والمعاملات التجارية بباريس، وقسم نشاطه بين المغرب وفرنسا، وبذلك تمكن من توسيع نشاطه وتقوية مجموعته، فأصبح عدد من الوزراء والموظفين السامين بالمغرب في خدمته.
منذ أن طلع اسمه في لائحة المتابعين من طرف النيابة العامة فر من المغرب بوسائله الخاصة قبل صدور أمر إلقاء القبض عليه.
وقد أكد أكثر من مصدر آنذاك، أن "دافيد عمار" هرب من المغرب برغبة جميع أصدقائه وشركائه خشية أن ينفضح أمرهم أكثر، كما تأكد أن "دافيد" متهم بإعطاء رشوة لأحد الوزراء السابقين المعتقلين وقتئذ، قدرها سبعون مليون فرنك دفعة واحدة.
عندما علم بخبر قرب إلقاء القبض عليه توجه إلى مطار طيت مليل المدني، وامتطى طائرة مدنية صغيرة في ملكية أحد أصدقائه بعد أن طلب منه رخصة الطيران إلى فاس ونواحيها.
عندما وصلت الطائرة إلى أجواء العاصمة العلمية خرجت عن دائرة مراقبة الرادار وتوجهت نحو الناظور، ومن ثمة عبرت البحر الأبيض المتوسط وحطت بمطار مدينة مالقا بإسبانيا بدعوى إصابتها بعطب.
بعد ذلك أصدرت السلطات المغربية مذكرة دولية لاعتقال "دافيد عمار" الذي لم يكن ليتمكن من الإفلات لولا تسرب خبر قرب اعتقاله، وقد قيل آنذاك إنه تم فتح تحقيق بخصوص الأشخاص الذين ساعدوه على الفرار، لكن سرعان ما تم حفظ ملف النازلة.
* "بول أوحنا"
"بول أوحنا"، الشقيق الأصغر لـ "هنري أوحنا"، خريج المدرسة العلية للمواصلات بباريس وحامل لوسام الرضا، منذ انفضاح أمر الوزراء اختفى عن الأنظار.
فمنذ حصول المغرب على الاستقلال كلفت الحكومة "بول أوحنا" بمسؤولية تدبير شراكة مع المجموعة الإيطالية "إي. ني" (ENI) لإحداث أول مجموعة مغربية لتكرير النفط، "لاسامير" التي سيديرها منذ إحداثها إلى سنة 1971.
كان "بول" مسؤولا عن شراء البترول الخام من الخارج، ومنذ بدأت الاعتقالات تمكن من الفرار بعد الانقلاب وتوجه إلى إسرائيل حيث أحدث هناك مختبرا للأبحاث في مجال النفط والبيئة بتل أبيب.
رأى المغاربة في "بول أوحنا" محتالا تم ائتمانه على أموال الدولة ففر بها، وحاولت الحكومة التستر على أمره.
* "هنري أوحنا"
خريج المعاهد العليا بفرنسا، رجع إلى المغرب بعد الاستقلال، مكنه تكوينه وعلاقاته بالحركة الوطنية من ولوج سلك الإدارة المغربية، حيث سير جملة من الدواوين الوزارية، فكان مدير ديوان وزير الفلاحة ثم التجارة فالمالية، وبعد قضاء عدة سنوات بالإدارة وصل خلالها إلى أعلى المناصب، عين بطلب منه، ممثل المكتب الشريف للتصدير بأوروبا والذي كان مقره بباريس، إلا أنه بعد فترة نودي عليه وعاد إلى الرباط لتعيينه نائب مدير ديوان وزير المالية، إدريس السلاوي آنذاك، غادر الإدارة سنة 1964، ومع حلول سنة 1968 كان أول من روج لبيع المصانع الجاهزة (المفاتيح باليد) بالمغرب، وبعد انقلاب الصخيرات (كان حاضرا بالقصر) فقرر مغادرة المغرب متوجها إلى إسرائيل.
آنذاك كان اليهود المغاربة يعيشون صعوبات جمة بخصوص اندماجهم في مجتمع الدولة العبرية لأنهم أتوا إليها دون نخبتهم وأطرهم الذي فضلوا الاستقرار بفرنسا أو كندا، لذلك حاول "هنري أوحنا" خدمة التنمية الاجتماعية والثقافية للسافرديم من أصل مغربي رفقة شقيقه "بول يوحنا" و"روبير أسراف" وآخرين استثمروا الأموال المهربة من المغرب هناك.
وقد عرف على "هنري أوحنا" أنه كان يقوم بدور الوساطة فيما يخص توظيف أموال الوزراء والموظفين السامين السابقين المتورطين، وإدارتها بالخارج.
وظف "هنري" الجزء الكبير من الأموال التي سطا عليها بالمغرب بإسرائيل واستعمل الجزء الآخر في إنتاج بعض الأفلام السينمائية التي لقيت نجاحا كبيرا، منها فيلم "سالمونيكو" و"سالمونيكو 2".
* "باروخ دهان":
اعتقل "باروخ دهان" في ملف صندوق الإيداع والتدبير، وكان معروفا باتصالاته وعلاقاته الوثيقة بهذه المؤسسة العمومية رغم أنه لم يكن يشتغل بها.
كما كان "باروخ" على اتصال وثيق بالمسؤولين الكبار في مكتب الأبحاث والمساهمات المعدنية بفعل اهتمامه بالسمسرة الكبيرة، وكان من المتلاعبين الكبار بأموال صندوق الإيداع والتدبير، وظل مستفيدا من أمواله على امتداد مرحلة طويلة بفعل تواطؤ المسؤولين معه.
بعض فضائح وزراء الحسن الثاني
همت الملفات التي عرضت على أنظار محكمة العدل الخاصة آنذاك عدة قضايا في الفساد والرشوة والاختلاس واستغلال النفوذ، اتصل بعضها بوزراء وموظفين سامين سابقين كانوا يوجدون في حالة اعتقال، وبعضها الآخر اتصل بآخرين موظفون وسماسرة ومقاولون، منهم من توبع في حالة اعتقال ومنهم من توبع في حالة سراح أو فرار، ولوحظ منذ بداية التحقيق أن قضية تجر أخرى أو تتفرع عنها قضايا جديدة، وبذلك ظلت دائرة المتهمين تتسع يوما بعد يوم كلما تقدم التحقيق.
وكانت اعترافات المقاول عمر بنمسعود هي التي مكنت المحققين من الوقوف على جملة من الحقائق، ووجه بها باقي المتهمين الذين اعتمدوا خطة "تسبيق الميم" (الإنكار)، وبنمسعود كان له ثقل كبير في مختلف الملفات الكبرى، وعلى رأسها ملف "بانام الأمريكية"، كما أن وزنه كان كبيرا في النسيج الاقتصادي، إذ كان يقود عدة شركات ويشرف على عدة أوراش في مختلف أرجاء المغرب، وكان توقيفها بغتة من شأنه إحداث اختلال ملحوظ، كان يشغل ما يناهز 400 عامل بفنادقه وأكثر من 1030 عامل بأوراش الأشغال العمومية وأكثر من 850 عامل بأوراش الطرق، أي ما يناهز 3000 عامل في المجموع، علما أنه كان مدينا للدولة وللأبناك بما قدره مليار و264 مليون فرنك آنذاك.
وإذا كانت فضيحة وزراء الحسن الثاني قد انطلقت بقضية "بانام" فسرعان ما انكشفت قضايا أخرى منها: - قضية "لاسامير"، وبطلها اليهودي المغربي "أوحنا" الذي هرب إلى إسرائيل بعد أن بعث تقريرا إلى الحكومة يشرح فيه ظروف استيلائه على أموال باهضة ولائحة بأسماء شركائه من كبار الموظفين وصغارهم.
- قضية الأراضي المسترجعة وكان بطلها العطار وأعوانه وجملة من رؤساء أقسام ومصالح وزارة الفلاحة، من ضمنهم بن الراضي المدير السابق لديوان محمد بركاش وزير الفلاحة.
- فضيحة مساكن الدولة التي بيعت لموظفين كبار بأثمنة تكاد تكون عديمة القيمة.
- فضيحة الرخص والامتيازات التي كانت تباع والمناصب التي كانت ترهن بمقابل شهري.
وهذه قضايا وغيرها تم اكتشافها خلال التحقيق بعد اعترافات بعض المتهمين أو نتيجة لمواجهات بينهم.
* قضية الرشوة:
بعد 4 سنوات على استقلال المغرب انتشرت الرشوة بشكل خطير، من أسفل الهرم الإداري حتى قمته، ولم يكن ذلك حادثة تاريخية معزولة، وإنما ارتبطت بتحول واضح عرفته السياسات المعتمدة ونهج تدبير الشأن العام، اللذان غيرا من طبيعة العلاقة بين الحكام والمحكومين، ولتكريس هذا المنحى تم الاعتماد على تقنوقراطيين بعد الإقرار بتهميش النخبة، ومنذئذ أضحى أناس غير سياسيين ولا علاقة لهم بالسياسة هم الذين يتحكمون في رقاب العباد والبلاد بدون منازع، حسب ما يحلو لهم وبدون مراقبة ولا مساءلة، يتصرفون في المغرب كما يتصرف الإقطاعي في ما ملكت يداه.
اعتمد سير عملية الرشوة على عنصرين مستقلين خلال نازلة الوزراء والموظفين السامين السابقين:
- العنصر الأول اعتمد على عمر بنمسعود، الذي كان معروفا عليه أنه يقوم بالسمسرة في الكثير من العمليات المهمة التي انتهت بالرشوة، علما أنه سبق أن شغل مناصب وازنة في بعض الدواوين الوزارية وتدخل قبل 1971 في كثير من العمليات تمس، من قريب أو بعيد، وزارة المالية أو المكاتب والمؤسسات العمومية وشبه العمومية المرتبطة بها.
- أما العنصر الثاني، فاعتمد على اليهودي المغربي "باروخ دهان" ذو الميولات الصهيونية الواضحة آنذاك، والذي كانت له اتصالات وثيقة بكثير من الأوساط المسؤولة، كما كان معروفا بأعمال السمسرة والوساطة في كل ما تعلق بمكتب الأبحاث والمساهمات المعدنية.
* قضية "بانام" الأمريكية:
هي القضية التي عرفت بـ "الفندق الكبير" الذي كانت شركة "بانام" الأمريكية تنوي تشييده بالدار البيضاء، وقد قيل آنذاك إن النازلة انكشف أمرها بواسطة عمر بنمسعود الذي استخدم بخصوصها عدة أسماء، الشيء الذي أدى بالأمركيين إلى الشك، ومن ثمة الضغط على الحكومة للقيام بتحقيق مع بنمسعود الذي اعتقل في بداية 1971 ثم أفرج عنه ثم اعتقل بعد ذلك في إطار فضيحة الوزراء.
لكن هناك رواية أخرى استأثرت باهتمام أغلب المحللين دون غيرها، وهي القائلة إنه قبل انقلاب الصخيرات بشهور، كلف الملك الراحل الحسن الثاني المذبوح بمهمة خاصة بالولايات المتحدة الأمريكية تحت غطاء تهييء الزيارة الخاصة لأمريكا والتي كانت مقررة في الأسبوع الأخير من شهر أبريل لسنة 1971، علما أن المهمة الحقيقية كانت هي البحث عن الأساليب الحقيقية لغضب حكومة واشنطن من المغرب آنذاك.
فحسب مجلة "إكسبريس" الفرنسية تمكن المذبوح من معرفة السبب بسهولة، إذ أن الأمر تعلق برسالة وجهها المدير العام لشركة "بانا ميريكان إيرويز" إلى صديقه "وليام روجرس"، كاتب الدولة، مرفوقة بنسخ من كتابات واردة من المغرب، وتهم قطعة أرضية بمدينة الدار البيضاء كانت الشركة ترغب في اقتنائها لتشييد فندق راق، في إطار برنامج يتضمن عدة وحدات سياحية كان من المنتظر إعداد الدراسات لإنجازها في بعض المدن السياحية المغربية، وفي إحدى نسخ الرسائل المرفقة بالكتاب الموجه إلى كاتب الدولة الأمريكي، أضافت إحدى الشخصيات الوازنة بالمغرب آنذاك العبارة التالية: "وجب دفع 600 مليون أيضا لإتمام الصفقة.."، وإضافة إلى هذا اكتشف المذبوح شبكة منظمة لتهريب الذهب من المغرب تحت إمرة شخصيات وازنة.
وفعلا، تعلق الأمر بقطعة أرضية اختارتها شركة "بانام" الأمريكية لتشييد فندق كبير، واتفقت مع مالكيها على السعر، لكن عمر بنمسعود تدخل باسم بعض المسؤولين الكبار ليطالب بعدد من الملايين كرشوة حتى تتم عملية البيع.
* فضيحة صندوق الإيداع والتدبير (CDG):
منذ اعتقال اليهودي المغربي "باروخ دهان" طالب الكثيرون بفتح تحقيق قضائي شامل مع الذين توالوا على مناصب المسؤولية بصندوق الإيداع والتدبير، علما أن هذا الصندوق أسس ليقوم بتنمية الأموال المجمدة كأموال صندوق التوفير الوطني وأموال الضمان الاجتماعي وغيرها من الأموال التي يمكن أن تكون مجمدة، وذلك للمساهمة في تنشيط الاقتصاد المغربي، وبهذه الصفة كان صندوق الإيداع والتدبير يقوم بأعمال البناء وبالمساهمة في الشركات المربحة وفي القطاع السياحي.. لكن لوحظ آنذاك أن بعض الانتهازيين والانتفاعيين استغلوا هذا الصندوق وأمواله كمجال للمضاربات، خاصة فيما ارتبط بالمضاربات العقارية إلى حد أن العقار في المغرب كان آنذاك سببا في اضطرابات اقتصادية، إذ خلفت رواجا مصطنعا وحركية مغلوطة وغلاء فاحشا. وعوض أن يضطلع الصندوق المذكور بتنمية الأموال المجمدة وتوظفيها في الدورة الاقتصادية وفي تنشيط اقتصادي حقيقي والحرص على ذلك، عمد إلى تجميد الأموال وسهل تداولها بين بعض الأفراد في مجال المضاربات غير المنتجة، والذين استفادوا بشكل كبير من هذه العمليات هم سماسرة توغل نفوذهم في صندوق الإيداع والتدبير، هذا إضافة إلى ما كان يعرفه هذا الأخير من سوء التدبير والتسيير، وبذلك زاد الطين بلة، حيث تم استغلال هذا الوضع لاعتماد أجور "طيطانيكية" وإسراف وتبدير في جميع مرافقه، حتى أضحى العالمون بخبايا الأمور ينعتونه بـ "صندوق الإسراف والتدبير"، وقد سبق لجملة من الوزراء المتورطين أن كانوا مسؤولين عن هذا الصندوق، علما أنهم اعتقلوا بسبب عدة قضايا اتصلت بهذا الصندوق وباليهودي المغربي "باروخ دهان".
وقد طالب المتتبعون آنذاك بفتح تحقيق قضائي كامل وشامل بخصوص هذا الصندوق منذ نشأته وبخصوص جملة من أطره المسؤولة وبعض السماسرة المرتبطين به، موضحين أن البحث لابد أن يكون قائما على أساس قانون: "من أين لك هذا؟".
* فضيحة صفقات شراء النفط:
انكشفت هذه الفضيحة عندما نشرت جريدة "الرأي" (لوبينيون) خبرا بخصوص حدوث تلاعب خطير في صفقة بترولية، بطلها رئيس الاستغلال بشركة "لاسامير" لتكرير النفط، بعد ذلك خرج القائمون على الأمور عن صمتهم المطبق، وأصدرت وكالة المغرب العربي للأنباء بيانا جاء فيه على لسان مصادر عالمة مقربة من وزارة التجارة والصناعة والمعادن والملاحة التجارية آنذاك، أنه فعلا تم فتح تحقيق بخصوص صفقة شراء كميات مهمة من النفط الخام لصالح شركة "لاسامير" ولشركة "ستيلما"، والتي كان مسؤولا عنها اليهودي المغربي "أوحنا" رئيس قسم الاستغلال في الشركة الأولى، وتبين أن شركة "لاسامير" أوفدت "أوحنا" إلى الاتحاد السوفياتي على رأس وفد رسمي مغربي قضى أسبوعين في موسكو للاستخبار عن إمكانية اقتناء كميات من النفط الخام الروسي، ثم عرج هذا الوفد على باريس، وهناك، بالعاصمة الفرنسية اختفى "أوحنا" رئيس الوفد ولم يعد يظهر له أثر، وعلم أعضاء الوفد أنه قرر عدم العودة إلى المغرب على إثر مكالمة هاتفية تلقاها من أحد مساعديه الذي أخبره بأن السلطات المغربية وضعت يدها على تلاعبات بخصوص صفقات شراء النفط الخام كان قد أشرف عليها.
هكذا فلت "بول أوحنا" من المساءلة والمحاسبة، وقطعت الطريق أمام كشف المتورطين في هذه النازلة الخطيرة.
وبذلك تمكن "أوحنا" من الفرار مستفيدا من أموال طائلة ولم تتمكن الشرطة من اعتقاله.
* فضيحة مكتب الأبحاث والمساهمات المعدنية (BRPM):
إنها فضيحة تورط فيها أيضا عمر بنمسعود، وكان بعض الوزراء وكبار الموظفين المعتقلين قد سبق لهم أن سيروا هذا المكب بصفتهم مديرين أو كتابا عامين، وقد تمكن أحد هؤلاء المديرين من الإقامة بفرنسا وظلت السلطات تطالب بعودته.
* ملف التلاعب بأموال التنمية الفلاحية:
من بين الملفات التي نظرت فيها محكمة العدل الخاصة، ملف التلاعب بأموال التنمية الفلاحية، وبطلها كل من محمد العطار، مدير مصالح التنمية الفلاحية، وأحمد بن الراضي مدير ديوان وزير الفلاحة، إلا أن البحث تعثر بخصوص هذا الملف بفعل أن بعض المتورطين فيه والمتابعين كانوا يتمتعون بحصانة كان لابد من رفعها قبل اعتقالهم.
في البداية تناسلت أخبار تقول إن الأمر يهم ما بين 5 و14 شخصا بعضهم فروا إلى الخارج، وقبيل اعتقال الوزراء طالبت الحكومة من مجلس النواب (البرلمان) رفع الحصانة البرلمانية عن بعض أعضائه تمهيدا لمتابعتهم.
* فضيحة الجوازات:
من المتورطين في هذه الفضيحة يوسف حمزة، الكاتب العام لعمالة مكناس باعتباره متورطا في عدة فضائح أخرى، وقد سبق له أن عين كقنصل للمغرب بباريس ثم استراسبورغ ثم سيدي بلعباس بالجزائر، لكن في سنة 1965 طفت خروقاته على السطح ففصل من وزارة الخارجية، وبدهائه ووساطاته تمكن من شغل منصب كاتب عام بعمالة وجدة ثم بمكناس، ولم يكن هو رجل السلطة الوحيد المتورط في فضيحة الجوازات، بل كان الرمضاني بمعيته الكاتب العام لعمالة الدار البيضاء.
ومن المعتقلين في هذا الملف عبد اللطيف الطنجاوي، الموظف بوزارة الخارجية، وقد تضاربت الآراء حول من سلم جواز السفر لسعيد بونعيلات، فتارة قيل إنه الطنجاوي وأخرى يوسف حمزة أو الرمضاني، علما أن الأول اعترف أنه هو الذي سلمه الجواز المزور.
انتهى التحقيق بخصوص هذا الملف يوم 27 دجنبر 1971 وبلغ عدد المتهمين فيه أكثر من 140 متهما منهم 80 حوكموا حضوريا وأكثر من 40 غيابيا لأنهم كانوا في حالة فرار.
* صفقة من صفقات المساومة:
خلال مجريات التحقيق مع الوزراء والموظفين الكبار السابقين تسربت أخبار آنذاك، من مصادر قريبة جيدة الإطلاع، مفادها أن مفاوضات ومساومات كانت جارية ليل نهار بين بعض القائمين على الأمور والمتهمين الرئيسيين.
ومن نتائج هذه المفاوضات، المساومات هبوط طائرة آتية من الديار السويسرية محملة بما قدره 35 مليار فرنك جلبت من الأبناك السويسرية، قيل إنها كانت في حسابات بعض المتهمين، أودعوها هناك بعد أن هربوها، كما قيل إنه بمجرد وصول المبلغ المذكور تم تسليمه لخزينة الدولة.
عمر بنمسعود مفتاح الكثير من الملفات
حسب بلاغ وزارة الأنباء اعتقل عمر بنمسعود، رجل الأعمال المشهور آنذاك، يوم الجمعة 5 نونبر 1971 بفعل تورطه في نازلة "الفندق الكبير" وفضيحة مكتب الأبحاث والمساهمات المعدنية.
منذ الوهلة الأولى أصر عمر بنمسعود على الكشف عن كل ما في جعبته في التحقيق، مما جر عددا آخر من الأسماء الوازنة إلى المحاكمة.
في البداية كان المقاول الوحيد المعتقل، وكان الجميع على يقين أن اعتقاله يهدد جملة من رجال الأعمال والأسماء الوازنة، كما أن حجزه هدد فعلا الحركة الاقتصادية بعدما حول حياة المقاولين ورجال الأعمال إلى جحيم. وذلك لأنه كان من المعروف آنذاك، أن هناك مقاولين ورجال أعمال شيدوا عمارات في إسبانيا واشتروا معامل في هولندة واقتنوا في ظرف وجيز جدا أسهما في شركات عالمية، كما كان معروفا، حق المعرفة، أنهم لم يحصلوا على كل ما حصلوا عليه بالطرق المشروعة، كما لم تجن منهم مصلحة الضرائب ما كان عليهم تأديته ضريبة ورسومات على ما كانوا يجنون من ا لامتيازات الممنوحة لهم من طرف الدولة.
اعتبر عمر بنمسعود المفتاح الأول لجملة من الملفات المعروضة على أنظار العدالة، إذ أنه كان متهما في الكثير منها. حينما أنفضح أمره اقترن اسمه بدءا بقضيتين كبيرتين، قضية الفندق الكبير الذي كانت تنوي شركة "بانام" الأمريكية تشييده بالدار البيضاء، وفضيحة مكتب الأبحاث والمساهمات المعدنية الذي كان يحتكر قطاع المعادن ونشاطه.
كان عمر بنمسعود أول من خضع للاستنطاق من طرف هيئة محكمة العدل الخاصة يوم الخميس 2 دجنبر 1971، ذلك اليوم كان قد غادر سجن العلو على متن سيارة "جيب" مخفورا بشرطيين، كان عصبيا.. بالباب رمق زوجته فصاح في وجهها: "لا تعودي لزيارتي".. لكن بمجرد وقوفه داخل قفص الاتهام أمام هيئة المحكمة، بدا حملا وديعا طيعا.. آزره ابن أخيه، الأستاذ عبد الواحد بنمسعود المحامي بهيئة الرباط والذي درس المحاماة بدمشق (سوريا)، وهو شقيق الممثل السينمائي المشهور حميدو بنمسعود. اتهم عمر بنمسعود وحده ستة عشر شخصية وازنة، بينما اتهم المتهمون الآخرون خمسة عشر شخصا، ليرتفع مجموع المتهمين إلى 34 ضنينا.
إضافة للقضيتين المذكورتين أعلاه، حضر اسم عمر بنمسعود بقوة في ملف "لاسكام"، الشركات التعاونية الفلاحية، وهي شركات عمومية أسستها الدولة لاستغلال الأراضي الفلاحية التي هي في ملك الدولة، هذه القضية مست عددا كبيرا من الموظفين السامين في وزارة الفلاحة ونواب الوزارة ومندوبيها توبعوا باختلاس أموال عمومية والتلاعب في أملاك الدولة وفي بيع الحبوب، كما برز اسم عمر بنمسعود في قضية الجوازات التي توبع فيها موظفون من وزارتي الداخلية والخارجية بتهم الارتشاء والإرشاء والتزوير، وتوبع بهذا الخصوص كذلك كل من اشترى جواز سفر أو من باعه أو من زوره أو من توسط في إحدى هذه العمليات.
الاعتقالات
بعد أن اعتقل من اعتقل وهرب من هرب أصدرت وزارة الأنباء بلاغا لم تكشف فيه إلا عن جزء من الحقيقة.
* بلاغ وزارة الأنباء
أصدرت وزارة الأنباء بلاغها الأول يوم الاثنين فاتح نونبر 1971 مساءا، أعلنت فيه عن اعتقال بعض الوزراء والموظفين السامين السابقين. وتلاه بلاغ ثان يوم الجمعة 5 نونبر، ومما جاء فيه ... كانت إدارة الأمن الوطني قد شرعت في شهر مارس 1971 في إجراء بحث حول بعض قضايا الرشوة واستغلال النفوذ، ولقد استمرت الإدارة العامة للأمن الوطني منذ التاريخ المذكور [...] وبدون انقطاع في مواصلة البحث الذي كانت قد شرعت فيه آنذاك سواء في الداخل أو في الخارج، قصد تصحيح المعلومات المتوفرة لديها واستكمالها والنظر فيها، وفي هذا الإطار ألقي القبض على :
- مامون الطاهري، وزير سابق للمالية وكذلك للتعليم العالي.
- محمد الجعايدي، وزير سابق للتجارة والصناعة.
- عبد الحميد كريم، وزير سابق للسياحة
- عبد الكريم الأزرق، وزير سابق للمالية
- محمد العيماني، وزير سابق للأشغال العمومية
- عبد العزيز بن شقرون، كاتب عام لمكتب الأبحاث والمساهمات المعدنية
- إدريس بلبشير، مهندس بالمكتب المذكور
- عمر بن مسعود، مدير أكثر من شركة
- يحيى الشفشاوني، وزير سابق للأشغال العمومية ومدير سابق للمكتب المذكور
- ناصر بلعربي، مدير سابق للمكتب المذكور وكاتب عام لوزارة الشؤون الخارجية
- دافيد عمار، مدير شركة بالدار البيضاء
- بيرنار ليفي مدير شركة بالدار البيضاء
- هنري أوحنا
* الاعتقالات
اعتقل عمر بن مسعود يوم الأربعاء 27 أكتوبر 1971، ولم يتم الكشف عن اعتقاله إلا يوم الجمعة 5 نونبر، كما أن بلاغ وزارة الأنباء لم يخبر باعتقال "باروخ دهان" الذي كان ضليعا في جملة من الملفات موضوع التحقيق، وكذلك الأمر بخصوص اعتقال أحمد بن الراضي.
وقد اعتبرت الصحف الوطنية آنذاك أن الإهمال في الإخبار بالواقع لا يخدم الناحية الإعلامية كما لا يخدم العدالة، مع انفضاح أمر الوزراء وتوريطهم في الرشوة والفساد والاختلاس واستغلال النفوذ نشرت مجلة "أنتربريز" الفرنسية مقالا، مما جاء فيه.. "إذا استمر الحال على ما هو عليه الآن، فإنه يجب بناء عدة سجون أخرى لتتسع للعدد الهائل من المعتقلين"، وهذا ما خلق تخوفا لدى رجال الأعمال وجعلهم يفكرون ويطيلون التفكير قبل أن يقرروا أي شيء فيما يخص معاملاتهم بالمغرب آنذاك.
وخرجت جريدة "العلم" في عدد يوم الثلاثاء 2 نونبر 1971 بمانشيط كبير في صفحتها الأولى، "اعتقال خمسة من الوزراء السابقين وبعض كبار الموظفين وعمر بن مسعود وباروخ دهان في قضايا الرشوة الكبرى التي أساءت إلى سمعة المغرب في العالم".
قبل هذه الاعتقالات تناسلت إشاعات همت أسماء وازنة كثيرة وأشارت الأصابع إلى بعض الشخصيات لكن بلاغ وزارة الأنباء وضع حدا لها بالإعلان عن أسماء المعتقلين مع الإشارة إلى أن المقاول الأبيض استدعي فقط للإدلاء بالشهادة، وأن ناصر بلعربي عزل من منصبه ككاتب عام لوزارة الخارجية.
وبعد بلاغ وزارة الأنباء، صدر بلاغ وزارة العدل لوضع النقط على الحروف، وذلك بتقديم القائمة النهائية للمعتقلين المقدمين للعدالة يوم 9 نونبر 1971، وكان آنذاك عشرات من الوزراء والمديرين المتلاحقين والعمال والباشاوات والقواد ليسوا أقل غنى ولا أنظف من الذين استضافتهم زنازين سجن العلو لكن لم يطلهم الاعتقال.
توقفت الاعتقالات رغم أن المتهمين المعتقلين ظلوا يطالبون بإحضار شركاء لهم، ذكرت أسماؤهم في التحقيق، وفي هذا الصدد انكشفت جملة من القضايا متعلقة بشيكات مع تحديد مبالغها قدمت لفلان أو علان للحصول على هذه المصلحة أو تلك، وكشفت بعض الصحف أن شخصيات وازنة أجري معها التحقيق دون أن يطالها الاعتقال.
* الفارون
تمكن بعض المتهمين من الفرار، وتقاعست السلطات عن تفعيل التشريع المغربي المتعلق بطلب تسليم المتهمين المقيمين بالخارج، فعندما انكشفت قضية الوزراء كان المتهمون بالخارج، وكان بعضهم بالمغرب، لكن سمح لهم بمغادرة التراب الوطني، واعتبارا لكثرة الفارين إلى الخارج أصدرت وكالة المغرب العربي للأنباء بلاغا يوم 11 نونبر 1971 وأوضحت فيه أن وزارة العدل أعدت دراسة عن التشريع العام الذي بمقتضاه يمكن المطالبة بتسليم المتهمين الفارين من وجه العدالة.
ولوج حضرة الوزراء سجن العلو
سيناريو أول ليلة
حسب شاهد عيان رأى عن قرب يوم استضافة سجن العلو بالرباط حضرة الوزراء المعتقلين.. كان ذلك يوم الثلاثاء 9 نونبر 1971، يوما مقفهرا أمطرت فيه السماء وعصف الزمهرير.. وصلت سيارات الأمن الوطني في الصباح مقلة الوزراء من مبنى الإدارة العامة للأمن الوطني حيث استنطقتهم الشرطة القضائية.
في تلك الليلة (ليلة الاثنين)، يقول شاهد عيان، عرف سجن العلو حركة دائبة.. تم إفراغ الزنازين الفردية بالحي الأوروبي في جنح الليل استعدادا لاستقبال الوزراء في الصباح، إذ أن الإدارة كانت على علم مسبق بالوافدين الجدد وبعددهم.
منذ الصباح حضر نائب وكيل الملك بمحكمة العدل الخاصة للإشراف بمعية كاتب الضبط، في ساحة السجن الخارجية، على تقييد الوزراء المتهمين الذين تسلمتهم النيابة العامة من الشرطة وأمرت بوضعهم في السجن رهن إشارة قاضي التحقيق.
وصلت السيارات فولجت الباب الحديدي الضخم واستقرت بين الباب الأول والثاني غير بعيد عن الساحة الخارجية، وبدأ الوزراء المعتقلون ينزلون الواحد تلو الآخر.. كان أول الواقفين بشباك مكتب الأمتعة مامون الطاهري، وزير المالية السابق، وضع أمتعته وتبعه الآخرون.. وضع جميعهم أمتعتهم.. خواتم، ساعات، رابطات العنق، خيوط الأحذية.. فتح أحد الحراس الباب الحديدي لتمكين ستة وعشرين متهما من دخول السجن.. وجدوا أنفسهم معزولين الواحد عن الآخر، أودع كل واحد منهم في زنزانة انفرادية دخل إليها حاملا غطاء رماديا من النوع الرديء.
قبل إيداعهم بسجن العلو كان المتهمون يتمتعون بكل ما يريدون من أكل وشرب، وكانت الوجبات الغذائية تحضر كل يوم في وقتها من طرف مطعم "جور إي نوي" (ليل ونهار) المشهور بالعاصمة الرباط.
الشارع والرأي العام
في البداية استحسن المغاربة كثيرا مساءلة ومحاسبة وزراء وموظفين كبار سابقين وتقديمهم للعدالة بتهمة الرشوة والفساد واستغلال النفوذ واختلاس أموال الشعب، واعتقدوا أنها بداية إصلاح فعلي، لاسيما وأن أغلبيتهم الساحقة كانت مكتوية آنذاك بلهيب الرشوة في مختلف الأصعدة وفي جميع الميادين، لأنها كانت عصب النهج المعتمد في التدبير والتسيير، من "مقدم الحومة" وصولا إلى الوزير، فكل من يريد وثيقة أو خدمة عمومية كان عليه ان يؤدي، أن "يدهن السير لكي يسير"، كل شيء بالأداء، شرعيا كان أم غير شرعي.. فالفلاح كان عليه أداء رشوة للاستفادة من حقه في البذور والسماد، رغم أن الخطاب الرسمي ظل يهلل بمجانية هذه الخدمات خدمة للتنمية والصالح العام، وكان على الآباء الأداء للحصول على شواهد أبنائهم المدرسية أو دفاتر الحالة المدنية أو عقود الازدياد، إذ انتشرت الرشوة حتى اضطرت العائلات، كل العائلات، الفقيرة منها والمتوسطة، تخصيص ميزانية معلومة تحسبا للرشوة، لأن كل شيء كان بمقابل، حتى إجراءات دفن الميت.
آنذاك رأى المغاربة البسطاء في محاكمة هؤلاء الوزراء بصيص نور وقشة تطفو على مجرى تطهير الحياة العامة، لكن سرعان ما بدا لهم أن كل ما جرى بهذا الخصوص، كان مجرد ذر الرماد في العيون، رغبة في تأجيل انفجار شعبي بفعل تردي الأوضاع وانتشار القمع الأسود.
كان المغاربة البسطاء ينتظرون الحقيقة، كل الحقيقة، غير أنه لم تتوفر لهم سبل معرفتها، إذ لم يسمح لهم إلا بالقدر اليسير منها، الكافي لذر الرماد في العيون لتظل دار لقمان على حالها، وبذلك استمر التاريخ في إعادة نفسه ببلدنا السعيد، من خلال المزيد من استشراء الرشوة والفساد وتكريس التهميش والإقصاء والإصرار على اغتيال طموحات الشعب والتي ظل يجترها منذ أن حلم بمغرب ما بعد 1956، لكن معاهدة إيكس ليبان كانت المقصلة التي حكمت مسبقا بالإعدام على تلك الآمال، وهذا ما عاينه المغاربة البسطاء بالملموس بعد محاكمة وزراء الملك الحسن الثاني، التي قيل إنها كانت انطلاقة للتصدي للفساد والمفسدين وعرضت كأنها عملية جراحية لاستئصال هذا الداء من جسم المغرب.
في منتصف المحاكمة بدأ يسود شك كبير بخصوص الرغبة في إصلاح وتطهير فعليين، لاسيما بعد تناسل أخبار عن مساومات ومفاوضات بين القائمين على الأمور والمتهمين، لدرجة أن الشارع المغربي أيقن أن ما قدم من إجراءات للتصدي للرشوة والفساد هو مجرد ضربة سيف في الماء. وتأكد هذا المنحى بمعاينة استمرار مرتشين وفاسدين في مناصب عليا آنذاك دون أن تتملكهم أدنى خشية أو خوف مما يجري ويدور، كأن شيئا لم يحدث.
كيف كان الوزراء يقضون أوقاتهم وراء القضبان
كيف كان الوزراء المسجونون يقضون أوقاتهم بسجن العلو؟ وفيما يفكرون؟ وكيف يتناولون طعامهم؟ وما هي الأعمال التي كانوا يقومون بها؟ إنها أسئلة من الطبيعي أن تشغل الناس باعتبار أن نازلة اعتقال وزراء فريدة من نوعها بالمغرب ولم تحدث إلى حد الآن سوى مرة واحدة، وكان ذلك في سنة 1971.
لكل واحد من الوزراء، نزلاء سجن العلو، نهجه وطريقته في قتل الوقت وراء القضبان وخلف الأسوار العالية.
فالشفشاوني كان يعيش في صمت مطبق، وعندما يتكلم يقول: اصبر على المكتوب؛ في حين كان عبد الحميد كريم يبقى ساهما متأملا وكأنه لا يصدق ما جرى، خلافا لتصرف عمر بنمسعود الذي كان ثائرا غاضبا لا يقوى على السيطرة على أعصابه.
أما مامون الطاهري فكانت حالته سيئة بالسجن، لا يتكلم إلا نادرا وللضرورة وعند اللزوم فقط.. كان دائما يبدو كئيبا غارقا في التفكير، يستيقظ باكرا قبل الجميع ليتوضأ ويصلي ويتلو القرآن، كان يتلو القرآن والأوراد والأذكار، ما عدا عندما كان يتناول طعامه الذي يأتيه من منزله في كل الأوقات. واختار ناصر بلعربي التودد لكل سجين وجذب أطراف الحديث في أي شيء.
بخصوص محمد الجعايدي، فقد كان يفضل الاسترخاء والتأمل، في حين حاول عبد الكريم الأزرق العيش كأنه خارج السجن.
لم يكن محمد العيماني "يتسوق لأي شيء" كما يقال، يتمرن كثيرا كل صباح، وبعد تناول الفطور يدخن سيجارته الأولى بنشوة كبيرة، وكان يأكل بشهية مفرطة ويمطر الحراس بسيل من الكلام غير اللائق. وكان محمد الجعايدي يعيش عيشة البرجوازي الأرستقراطي حتى خلف القضبان الحديدية، كلما قام للأكل كان يعلق المنديل على صدره أو ينشره على ركبتيه.. كان يغني ويمرح كأن شيئا لم يقع.
مع بداية التحقيق التفصيلي تم تفريق المعتقلين وتوزيعهم على السجون المتفرعة عن سجن العلو بالعاصمة، الرباط، إذ نقل عمر بنمسعود وعبد العزيز ناصر بلعربي إلى سجن السويسي، أما مامون الطاهري ومحمد الجعايدي وعبد الحميد كريم فأودعوا بسجن المطار بسلا، ونقل يحيى الشفشاوني إلى المستشفى قصد العلاج حيث مكث هناك مدة طويلة.
عزل عمر بنسمعود داخل سجن السويسي عن بقية المعتقلين، وهناك كان يطبق على الوزراء وكبار الموظفين المعتقلين نظام السجن دون تمييزهم عن الآخرين خلافا لما كان يجري به العمل بسجن العلو.. فكانوا يصطفون مع السجناء في الصباح للمناداة عليهم ومراقبة حضور نزلاء السجن، ولا يخرجون إلى الفسحة بساحة السجن إلا في الأوقات المحددة لذلك بدون أي تمييز، إلا أن زياراتهم كانت تخضع لنظام خاص مخالف عن باقي السجناء.
أما في سجن المطار بسلا، كان المعتقلون يقضون يومهم في حديقة السجن ينعمون بأشعة الشمس والهواء النقي ومجاذبة أطراف الحديث مع بعضهم البعض.
كان السجناء الثلاث بهذا السجن يقطنون في زنزانة مساحتها 6 أمتار مربعة تقريبا، وكل نزيل له سريره الخاص وأدواته ومتاعه الخاص، إذ كان يجلب كل ما يريده من منزله، وكانت لهم مطلق الحرية في الدخول أو الخروج من الزنزانة والتنقل بينها وبين الحديقة تحت مراقبة الحراس من بعيد فقط، وكان أكلهم وشربهم يأتيهم يوميا من بيوتهم، وتزورهم عائلاتهم متى شاءت.
ومن غرائب مجموعة سجن المطار أن عبد الحميد كريم، لما اقترب 3 مارس، وهو اليوم الذي كان يصادف عيد العرش في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، تبرع على المساجين بثور ذبحوه احتفاءا بهذا العيد الوطني الذي كان يحتفل به ببهرجة تفوق الحد آنذاك.
زيارة الوزير الأول للسجن
ظلت عين الوزير الأول، الدكتور أحمد العراقي، على الوزراء والمواطنين السامين السابقين وهم رهن الاعتقال بسجن العلو بالرباط، إذ كان يزورهم بانتظام.
وخلال هذه الزيارات كان يتصل ببعض المتهمين، لاسيما أعضاء حكومته السابقة، وقد استغرب الكثيرون آنذاك تكرار مثل هذه الزيارات والحرص على انتظامها من طرف رئيس الوزراء، وهو شخص ذي وزنه السياسي والاجتماعي.
بدا بجلاء بأن زيارات الدكتور أحمد العراقي لسجن العلو لم تكن فقط لمواساة صهره المعتقل، الجعايدي، وإنما يتعلق الأمر بإسداء النصح للمعتقلين حتى لا يسقطوا في زلة إنكار ما هو مثبت في محاضر الشرطة خصوصا وأن ما كتب بها لم يكن تحت ظروف الضغط أو التعذيب كما كان جاري به العمل آنذاك بخصوص أغلب الملفات والنوازل المعروضة على السلطات الأمنية قصد البحث والتقصي بصددها.
المحكمة المختصة.. من سينظر في قضية الوزراء؟
منذ بداية التحقيق تساءل الكثيرون بخصوص نوعية القانون الذي كان سيطبق في حق الوزراء المعتقلين، هل هو القانون الجنائي أم قوانين جنائية خاصة؟
وتساءلت الصحافة الوطنية بخصوص المحكمة المؤهلة لمساءلة الوزراء، لاسيما وأنه كانت توجد آنذاك محكمة عليا تنظر في جنايات الرشوة واستغلال النفوذ المرتكبة من طرف الوزراء أثناء ممارسة مهامهم، والتي صدر قانونها التنظيمي في 5 أكتوبر 1970، والاختصاص بالنسبة للوزراء وحدهم يرجع مبدئيا لهذه المحكمة.
علما أن محكمة العدل الخاصة أنشئت في 20 مارس 1965، ثلاثة أيام قبل انتفاضة 23 مارس بالدار البيضاء للنظر في قضايا الرشوة واستغلال النفوذ والزور والقضايا التي اتهم فيها الموظفون وشركاؤهم ولو لم يكونوا موظفين.
ففي فجر السبعينيات كان أغلب المحللين يرون أن المغرب، اعتبارا لتصنيفه ضمن البلدان المتخلفة، كان ينقصه الكثير من التربية الوطنية (روح المواطنة بلغة العصر الحالي)، وكانت آنذاك توجد في أساليب الحكم وتدبير الإدارة العمومية ثغرات ينفذ منها الفساد، لذلك وجد المشرع نفسه مضطرا، حسب القائمين على الأمور، لأن يشرع قوانين خاصة وأن يضع محاكم خاصة لمقاومة الفساد الإداري المتمثل آنذاك في الرشوة والغش واستغلال النفوذ. فإلى جانب محكمة العدل الخاصة، أنشئ دستور 1962 وسار على منواله دستور 1970، محكمة عليا لمحاكمة أعضاء الحكومة عما يرتكبونه من جنايات أثناء ممارستهم لمهامهم، آنذاك إذن كان قضاء عام وقوانين عامة من جهة، ومن جهة أخرى قضاء خاص وقوانين خاصة.
لكن رغم وجود محكمة العدل الخاصة منذ مارس 1965، ورغم وجود المحكمة العليا منذ 1962، فإن الرشوة والفساد ظلا موجودين، بل انتشرا انتشارا مروعا، واتضح منذ السبعينيات أن القوانين الزجرية لا تكفي ولابد من قوانين وقائية تضع حدا للتطلعات التي يقع ضحيتها أصحاب المسؤولية وتضيع بسببها البلاد وسمعة الدولة ومصالح المواطنين، وقيل آنذاك، إن من أهم القوانين الوقائية التي كان من المفروض اعتمادها وسنها قانون "من أين لك هذا؟" حتى يعرف كل مغربي يجلس على كرسي منصب المسؤولية أنه مطالب بتقديم بيان عن كل مكاسبه ومالديه فلا يجازف بمصلحة البلاد والعباد إرضاء لرغباته وخدمة لمصالحه الخاصة.
من أين لك هذا؟
شعار أرعب الكثيرين لكنه ظل حبرا على ورق
في فجر السبعينيات كثر الحديث عن قانون "من أين لك هذا؟"، وتساءل المغاربة البسطاء، هل سيطبق على الجميع أم سيقتصر على البعض دون الآخر؟ وهل سيتناول أعضاء الحكومات السابقة منذ 1956؟ أم أنه سيقتصر على أعضاء حكومة ذلك الوقت برئاسة الدكتور أحمد العراقي؟
في السبعينيات رغم تسلط القمع على الرقاب، ظلت كل القوى الحية للمجتمع تنادي بالإقرار وسن قانون "من أين لك هذا؟"، باعتبار أن التصدي للرشوة والفساد ومقاومتهما لا تكفي القوانين الزجرية للحد منهما، لأنها مجرد عقاب وليست وقاية ناجعة.
وقانون "من أين لك هذا؟" كان من شأنه وقتئذ أن يجعل كل موظف أو مسؤول يشعر فعلا أنه محاسب ومراقب منذ تسلمه المسؤولية على ما اكتسب بغير وجه حق، وأنه متابع على استغلال النفوذ لصالح الإثراء غير المشروع.
وكانت محاكمة وزراء الحسن الثاني مناسبة سانحة لسن قانون "من أين لك هذا؟" في نظر المغاربة البسطاء.
آنذاك طرح هذا القانون واعتبر مطلبا قويا وعادلا من حيث المبدأ، لكن كان يجب على من يطالب بسنه وإقراره ألا يكون مصنفا في عداد أولئك الذين وجب أن يقال لهم من أين لكم هذا؟
آنذاك ظهر أن جملة من الأشخاص كانوا لا يملكون قبل سنة 1956 أكثر من كتيبات صفراء، لكن أصبحوا يسكنون قصورا فخمة مؤثثة بالنفائس من كل أرجاء العالم، مثل هؤلاء لم يكن بوسعهم المطالبة بسن قانون "من أين لك هذا؟" لأنهم من الأوائل الذين سيكون عليهم الخضوع.
لذلك كان قانون "من أين لك هذا؟" شعارا أرعب الكثيرين فعملوا على أن يظل حبرا على الورق، ولازال كذلك حتى الآن، يترحم عليه المغاربة البسطاء، الذين ظنوا أن محاكمة وزراء الحسن الثاني محاكمة حقيقية للقطع مع الماضي ورسم غد مغاير، لكن ثبت لهم مرة أخرى، أن التاريخ يعيد نفسه ببلدنا السعيد.
أصحاب البذل السوداء في محاكمة الوزراء
المحامون الوزراء رفضوا الدفاع عن زملائهم في الاستوزار
قيل آنذاك إن الأستاذ المعطي بوعبيد كان من المحامين القلائل الذين قبلوا الدفاع عن أغلب المتهمين في محاكمة وزراء الحسن الثاني وذلك بأتعاب مهمة جدا، في حين رفض الكثير من المحامين المشهورين مؤازرة الوزراء المعتقلين، ومنهم امحمد بوستة، وزير العدل السابق آنذاك، والأستاذ عبد الكريم بن جلون وزير التعليم السابق، آنذاك رفض كل المحامين الوزراء الدفاع عن زملائهم الوزراء المعتقلين تفاديا للشبهة والانتقاد.
أكد المتتبعون للمحاكمة أن المحامين الصغار الذين قبلوا الدفاع عن المتهمين أغلبهم طلبت منهم المحكمة الدفاع عنهم في إطار المساعدة القضائية، وهذا أمر استغرب له الكثيرون.
كان عمر بنمسعود محظوظا، إذ آزره ابن أخيه الأستاذ عبد الواحد بنمسعود المحامي بهيئة الرباط آنذاك، أما مامون الظاهري، ففي البداية بدا أن كبار المحامين رفضوا التعامل معه، لذلك كلف الأستاذ تيسكيي فينيانكور المحامي الفرنسي الذي سبق له أن شارك في انتخابات الرئاسة، إلا أنه لم يقبل الدفاع عنه بالمغرب بفعل تشنج العلاقات بين المغرب وفرنسا بخصوص قضية اغتيال المهدي بنبركة، لهذا وكَّل محامين لبنانيين، هم الأستاذ هودارا والأستاذ عبود والأستاذ صباح، وأكد أكثر من مصدر آنذاك أن الأستاذ رضا كديرة الذي اعتذر عن الدفاع على صديقه الحميم مامون الطاهري، هو الذي وجهه إلى المحامين اللبنانيين.
الأستاذ امحمد بوستة يحتفظ بالملف المختفي
اختفى ملف فساد يتعلق بوزارة العدل، وعندما أرادت اللجنة البحث في مضمونه فتحت الصندوق فلم تعثر عليه.. لقد اختفى الملف، وعوض البحث في مضمونه فتحت اللجنة بحثا عنه.
لكن الأستاذ امحمد بوستة، عضو اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال ومحامي أحد الأطراف في هذه النازلة، أنقذ الموقف إذ كانت بحوزته نسخة من الملف المختفي.
ترجع نازلة هذا الملف إلى سنة 1969، حينما اكترت إحدى السيدات الجزائريات عمارة بشارع السنغال بالرباط بما قدره 700 درهم شهريا من مواطنين برتغاليين وأنشأت بها مدرسة خاصة للتجارة العصرية، آنذاك عرفت هذه المؤسسة إقبالا كبيرا إذ فاق عدد طلابها 800 نفرا.
لذلك فكرت صاحبتها اقتناء القطعة الأرضية المجاورة لها لتوسيع المدرسة التي ضاقت بطلابها، وهذا ما كان، إلا أن المديرة لم تتمكن من وضع اليد على القطعة الأرضية المقتناة لأن أحد الموظفين الوازنين بوزارة العدل اتصل بالبرتغالي مالك الأرض واقترح عليه شراءها بالثمن المتفق عليه مع مديرة المدرسة (25 مليون فرنك) من طرف مصلحة الأملاك المخزنية قصد وضعها تحت تصرف وزارة العدل لبناء مقر المحكمة الإقليمية بالرباط، وافق وزير العدل، عبد الحفيظ بوطالب آنذاك، وكذلك الوزير الذي عوضه من بعد، أحمد بنبوشتة، لكن عندما قام امحمد باحنيني، وزير العدل في فجر السبعينيات بزيارة لعين المكان ولورشة المحكمة، اكتشف ما لم يكن بالحسبان، بناية ستحتضن مقر المحكمة على قطعة صغيرة وسط البنايات السكنية ومتاجر البقالة، وبعد هذه المعاينة غير المنتظرة انكشف المستور، لقد تم الاتفاق مع مالك الأرض، البرتغالي، أن يتسلم 25 مليون فرنك ثمن أرضه ويمضي أنه باع العمارة وحدها لأحد الرباطيين المعروفين من عائلة ذائعة الصيت، وذلك بما قدره 9 ملايين من جهة، ومن جهة أخرى يمضي على أنه باع الأرض لمصلحة الأملاك المخزنية بما قدره 40 مليون فرنك، وبعد بيع الأرض اكتشفت الوزارة أن مساحتها غير كافية فاضطرت إلى اقتناء العمارة (المدرسة) التي بجانبها، وتم الاتصال بمالكها (الوهمي) الذي وافق على بيعها بالثمن الذي اختاره وطرد الطلبة من المدرسة لأن الوزير لا ترد كلمته بمغرب السبعينيات.
امحمد الدويري
من المعلوم أن اسم امحمد الديوري لم يرد ضمن بلاغ وزارة الأنباء وبلاغات وزارة العدل في شأن الاعتقالات والمتابعات المرتبطة بما عرف في سنة 1971 بمحاكمة الوزراء والموظفين السامين السابقين، لكن في جلسة يوم الأربعاء 10 نونبر 1971 بمجلس النواب، طالب أحد النواب بفتح ملف المركب الكيماوي بآسفي، وفعلا وعد الوزير المختص بذلك عندما أجاب على تدخل النائب وغيره من النواب بهذا الخصوص.
آنذاك تردد في كواليس البرلمان أن ما أثير بهذا الخصوص يعنى شمول البحث والتقصي في الملف المعني بالأمر منذ أن كان مشروع إحداث المركب الكيماوي بآسفي مجرد مخطط على الورق إلى أن تم تشييده.
كما تردد آنذاك في كواليس البرلمان أيضا أن امحمد الدويري متهم باختلاس أموال ضخمة تتعلق ببناء هذا المركب، ومما أثار الانتباه وقتئذ أن جريدة "لوماتان"، التي كان يديرها النائب البرلماني أحمد بن كيران، سبق لها أن تناولت هذا الموضوع في بعض افتتاحياتها.
آنذاك تساءل الكثيرون بخصوص إثارة هذا المشكل، لاسيما ارتباطه باتفاق مسبق بين أعضاء مجلس النواب لإثارته في ذلك الظرف بالضبط (انطلاق محاكمة الوزراء) أم أن الأمر كان مجرد صدفة؟
لكن الأكيد هو أن امحمد الدويري لم يكن ضمن لائحة المتهمين ولم تستدعه محكمة العدل الخاصة تحت أية صفة.
كما أن جريدة التحرير اتهمت امحمد الدويري، كوزير للاقتصاد الوطني والمالية، باختلاس أربعة ملايير فرنك في إطار تدبيره لملف المركب المذكور، وكان مبلغا خياليا في نظر أوسع فئات الشعب المهمشة والمحرومة آنذاك.
على سبيل الخلاصة
الكثيرون رأوا في محاكمة الوزراء والموظفين السامين السابقين لسنة 1971 أنها كانت مفروضة بفعل تداعيات داخلية وأخرى خارجية، لكن سرعان ما تبين أنها مجرد لعبة ومسرحية مرت كما تمر السحابة الصيفية.
فقبل نهايتها كانت عائلات الأضناء على شبه يقين أن الأحكام ستكون مخففة وأن ظروف الاحتجاز ستكون خاصة وليست عادية، وأن المدانين سيطلق سراحهم قبل إتمام مدة العقوبات المنطوق بها. وهذا ما كان حيث أن إغلب المعتقلين قضوا فترات قصيرة من عقوباتهم في ظروف جد مريحة، بل منهم من عين على رأس شركات كبرى كسبيل من سبل رد الاعتبار له، علما أن مصالح وثروات وأملاك المدنيين من طرف محكمة العدل الخاصة، بمن فيهم المحكوم عليهم غيابيا، لم يتم المساس بها ولو قيد أنملة، رغم أنه كان من المفروض، على الأقل إرجاع ولو جزء مما تم السطو عليه من أموال الشعب وممتلكاته.
وقد اتضح بجلاء أن كل جهة حاولت استخدام محاكمة سنة 1971 من الزاوية التي تناسبها، فهناك من استغلها لذر الرماد في العيون، وهناك من حاول استغلالها لإحراج النظام، بل لمحاكمته بطريقة غير مباشرة.
كما بينت المحاكمة بوضوح كيف أساء القائمون على الأمور للاقتصاد الوطني الفتي آنذاك، وكيف تم حرمانه من أموال طائلة كان من المفروض استثمارها للمساهمة في إنتاج وإعادة إنتاج ثروات وطنية مضافة والتي من شأنها دعم وترسيخ سيرورة التنمية آنذاك، أو على الأقل ترويجها بالمغرب عوض تهريبها إلى الخارج، علما أن جزءا كبيرا منها عرف طريقه إلى الدولة العبرية، إسرائيل، حيث تم توظيفه هناك في مشاريع منتجة من طرف أقطاب اللوبي اليهودي المغربي الذي ساعد الوزراء والموظفين الكبار السابقين على القيام بجرائمهم الاقتصادية والاجتماعية في حق المغرب والمغاربة.
محمد طارق السباعي رئيس الهيئة الوطنية لحماية المال العام بالمغرب
محاكمة حزمة من الوزراء... فرجة للنظام وامتصاص للغضب الشعبي
- إذا ما حاولنا أن ننبش ذاكرة الأحداث التي عرفها المغرب وما تلاها من محاكمة الوزراء سنة 1971، ما هي في نظرك الأسباب التي حركت المتابعة في حق هؤلاء الوزراء؟
+ جاءت محاكمة الوزراء سنة 1971 بعد ما عرف المغرب أحداثا دامية سنة 1965 وبعد محاولة انقلابية وانتفاضات شعبية وتوسع الهوة بين الطبقات وقمع ممنهج لكل المعارضين بهدف نهب الثروات، فقد تزامن القمع والنهب على جميع المستويات منذ إغلاق برلمان 1963، وتم خنق المعارضين بالداخل والخارج وشددت الرقابة على الصحف وارتفعت أصوات ضد الفساد، وكان شعار "من أين لك هذا؟"على كل لسان، فجاءت هذه المحاكمة لتدشن محكمة جديدة لناهبي المال العام وجهت لها انتقادات مطالبة بإلغائها على اعتبار أنها استثنائية ومقيدة بسلطات الحكومة، خاصة الفصل الثامن والذي يعطي فقط لوزير العدل سلطة تحريك المتابعة .
لقد كانت محاكمة حزمة من الوزراء عبارة عن فرجة للنظام وامتصاص للغضب الشعبي، إنها محاكمة موجهة للخارج بالدرجة الأولى للحصول على المزيد من الدعم والقروض .
- إلى أي حد كانت هذه المتابعة فعلية ولم تكن مجرد ذر للرماد في العيون؟
+ لم يكن النظام جادا في إصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بسن قوانين واضحة لمكافحة الفساد والجريمة المالية.
ولقد ارتفعت أصوات للمطالبة بسن قانون التصريح بالممتلكات لأن التقاليد الديمقراطية العريقة هي إثبات النزاهة والشفافية، وهو سلوك يعتمده الفاعلون السياسيون على وجه الخصوص غداة تسلمهم مهام المسؤولية داخل مؤسسات الدولة أو حتى داخل الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية.. كشرط ضروري تقتضيه الممارسة الديمقراطية.
فمنذ بداية الاستقلال تعالت عدة أصوات تطالب بإدخال هذا السلوك (أي التصريح بالممتلكات والكشف عن مصادرها) إلى الممارسة السياسية ببلادنا، ورفع العديد من المعارضين شعار "من أين لك هذا؟"، كتعبير عن ضرورة محاسبة كل المسؤولين عن تدبير الشأن العام، لكنه، مع الأسف، ظل شعارا فارغا من محتواه، ولهذا السبب تأخرت عملية محاسبة مجموعة من الرموز السياسية إلى اليوم، حتى أصبحنا أمام معركة تتبادل فيها الاتهامات حول الإثراء غير المشروع على حساب قضايا سياسية كبرى سواء بالداخل أو الخارج.
فمعيقات المحاسبة والمساءلة يمكن ملامستها عن طريق طبيعة النظام السياسي الذي يعتمد على نظام المكافآت والامتيازات في التعامل مع النخب.
لقد سادت الثقافة السياسية المبنية في جوهرها على الولاءات والمصاهرات العائلية والزبونية والمحسوبية وما شابه ذلك من الممارسات التقليدية التي لها تجلياتها الراسخة في الحياة السياسية اليومية. وافتقدت النخبة السياسية لسلوك المساءلة والمحاسبة، واندمجت مع النظام وتم التطبيع معه مقابل الحصول على بعض المناصب والريع السياسي .
إن لدينا العديد من القوانين التي تضاهي حتى أعتى الدول الديمقراطية لكنها تبقى حبرا على ورق لافتقادنا لحكومة منبثقة من صناديق الاقتراع تكون لها الجرأة على محاسبة كل المسؤولين عن المال العام ومساءلة كل من ظهر عليه ثراء فاحش.
ولذلك فإنني أشاطرك الرأي في أن هذه المحاكمة لم تكن إلا ذرا للرماد في العيون، ولهذا السبب فقد تم العفو عن الوزراء خلال سنة 1973.
- ما هي القطاعات التي مستها هذه المحاكمات، وهل كانت بداية تفعيل قانون "من أين لك هذا؟"؟
+ لقد حوكم وزراء من العيار الثقيل ومنهم وزير المالية السيد مامون الطاهري الذي كانت له سلطات واسعة في صرف المال ومراقبته وبالتالي لم يتضمن الملف الكثير من القضايا الكبرى قياسا بحجم واهمية الوزراء المتابعين.
ولا شك أن هذه المحاكمة مست قطاعات مهمة لكن تم اختزالها في سوء التدبير والتبديد والغدر والاختلاس دون البحث عن جذور الفساد والعمل من أجل استئصاله.
إن القول ببداية تفعيل قانون من أين لك هذا؟ ليس صحيحا لأنه لم يرق إلى قانون بل لم يكن إلا مجرد شعار للاستهلاك لم يتحقق ولن يتحقق إلا إذا صدر قرار سياسي لا رجعة فيه، يعتبر الجرائم الاقتصادية جرائم ضد الإنسانية لا تتقادم ولا يستفيد مقترفوها من أي عفو،
وستلاحظين معي كيف خرج قانون التصريح بالممتلكات عن برلمان 2007، والذي سيبقى غير ذي موضوع وغير ذي جدوى.
إنه قانون معوق ومصاب بعدة أعطاب لأنه بكل بساطة لا يتضمن تصريح الزوجة والأولاد، أسوة بالدول الديمقراطية كاليمن والسودان، ولو طبقنا شعار من أين لك هذا؟ على الوزير إدريس وزوجته وأولاده لوجدنا أن هاذين الأخيرين يملكان أكثر من ولي نعمتهما لما كان وزيرا لأم الوزارات .
- ما دور الأحزاب السياسية في تحريك هذه المتابعات خاصة حزب الاستقلال؟
+ لقد كان لحزب الاستقلال دور في رفع شعار من أين لك هذا؟ وكان للمعارضة اليسارية في الداخل وبالمنفى دورها أيضا في تحريك الانتفاضات الشعبية، لكن المتابعة لم تأت استجابة لمطالب المعارضة بل لامتصاص غضب شعبي عارم كاد يعصف بالنظام.
هذا النظام عوض أن يقوم بمعالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بسنه لقوانين ضد الرشوة وتخليق الحياة العامة وسن قانون التصريح بالممتلكات لصرنا في مصاف الدول المتقدمة والراقية، لكن النظام قام بإعداد العدة لخنق الحريات للمزيد من نهب الثروات.
أتذكر جازما أن الحسن الثاني قام بالعفو عن المقاوم سعيد بونعيلات رفقة أحمد بنجلون بعد أحداث مولاي بوعزة في إطار الهدنة التي قررها النظام مع المعارضة اليسارية وفي ظروف الإعداد لاسترجاع الساقية الحمراء ووادي الذهب، أذكر انه في نفس اليوم تم إطلاق سراح الوزراء المدانين بمقتضى عفو شامل عليهم، ويعلم الله هل أرجعوا الأموال المنهوبة إلى الخزينة العامة أم لا؟
- هل أزيح الوزراء المسؤولون عن القطاعات التي مستها المحاكمة؟
+ بطبيعة الحال تمت إزاحة الوزراء من مسؤولياتهم لكنهم تركوا قواعد ومراسيم تشرعن لنهب المال العام، أذكر منها قرارا وزاريا لوزير المالية مامون الطاهري يعطي للمخبرين بقطاع الجمارك الحق في ربع الغرامة المحصلة من السلع المهربة كمكافأة، وتصور معي إذا كان المبلغ يفوق المليارين كم سيكون نصيب المخبر الذي لا يعلن عن اسمه والذي لن يكون إلا قريبا من أقرباء المسؤولين الجمركيين.
إن هذا القرار حرر بلغة فولتير ولم نعثر على النص العربي، إنه لازال معمولا به في عهد الوزير الاشتراكي.
- هل تتوفرون على أرقام تتعلق بحجم الاختلاسات التي توبعوا من أجلها؟
+ إن مجموع ما توبع به الوزراء الستة يمكن القول إن ملف الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يمثل عشرة أضعاف ما توبع به الوزراء.
إن ماحوكم به الوزراء هو نزر يسير والقليل مما كان يجب الكشف عنه، نظرا لما عرف عليهم من نهب منذ الاستقلال، فالمسكوت عنه يضاهي المعلن، لأن ما تمت معالجته عن طريق الصحف أو القضاء أو ما تم التحقيق فيه لا يمثل إلا نسبة ضئيلة من المؤسسات التي تعرضت لنهب المال العام ...
علينا أن نبحث في الثروات الوطنية المنهوبة عن طريق تشكيل هيئة مستقلة للحقيقة وإرجاع الأموال المنهوبة .
- وماذا عن إشكالية استقلال القضاء في المغرب ؟
+ إن القضاء المستقل دعامة أساسية للحقوق والحريات، فما أحوجنا لقضاء مستقل، به سنحافظ على ثرواتنا وسيمكننا من تفعيل مبدأ عدم الإفلات من العقاب .
حاورته ح - أ
علي فقير، باحث
لا أظن أن هناك رغبة في الإقرار بدولة الحق والقانون
- كانت محاكمة الوزراء والموظفين السامين السابقين سنة 1971 من أجل الرشوة والفساد واستغلال النفوذ واختلاسات أموال الشعب حدثا بارزا لم يسبق له مثيل، هل جاءت هذه المحاكمة رغبة فعلية للتطهير والإصلاح أم لذر الرماد في العيون؟
+ اعتقال بعض الوزراء وبعض كبار موظفي الدولة سنة 1971 لم يكن نتيجة سياسة تطهير أجهزة الدولة من الفساد، لقد كان النظام يعيش في تلك الفترة تناقضات داخلية خطيرة أدت إلى محاولتين انقلابيتين في يونيو 1971 وغشت 1972، كما أن المجتمع كان يعيش صراعا طبقيا حادا: المجموعات الثورية الاتحادية التي تتبنى الكفاح المسلح وظهور الحركة الماركسية اللينينية المغربية التي عم إشعاعها الشباب المغربي في مختلف المناطق، إن هذه الأجواء هي التي دفعت بالنظام المغربي إلى اعتقال بعض التكنوقراط الذين لا يشكلون وزنا سياسيا ولا اقتصاديا ولا اجتماعيا.
- هل فعلا ساهمت تلك المحاكمة في إظهار مدى درجة تغلغل الفساد وتكريس الاختلاس من طرف القائمين على الأمور آنذاك؟
+ طبعا لا، يشكل الفساد والاختلاس والمحسوبية والزبونية، إلى جانب القمع بمختلف أشكاله، ركائز قارة للنظام المغربي منذ قرون.
- آنذاك برز شعار "من أين لك هذا؟"، هل كان من الممكن تفعيله حينئذ؟ وهل هو شعار قابل للتطبيق حاليا، وما هي الجهة المخول لها تفعيله في مغرب اليوم؟
+ إن شعار "من أين لك هذا؟" قد طرح من قبل علال الفاسي وتبناه حزب الاستقلال، لكن يبقى بعيد التفعيل في إطار النظام السائد، وحتى طرح حزب الاستقلال لهذا الشعار كان بمثابة مزايدة كلامية لإحراج الدولة لأن حزب الاستقلال عند مشاركاته المتعددة في الحكومة لم يفعل شيئا للحد من ظاهرة نهب المال العام، ومن المستحيل اليوم تطبيق مثل هذا الشعار لأن جوهر النظام وأسس دولته لم تتغير لا في الفساد ولا في نهب المال العام والزبونية والمحسوبية والرشوة، فقد أصبحت هيكلية أكثر من الماضي، إذ صارت بمثابة سرطان ينخر المجتمع وتبقى الفئات الكادحة والمهمشة أكبر ضحايا هذا الواقع.
- لماذا في نظركم لم يشاهد المغرب مثل محاكمة سنة 1971 رغم التزايد الصاروخي لوتيرة الفساد والاختلاسات منذ ذلك التاريخ؟
+ إن الحكم يحاول إيجاد المسكنات الممكنة والمناسبة لواقع معين، إن للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية ومتابعة مديري بعض المؤسسات العمومية والتهويل من ظاهرة الإرهاب إلخ، هي أشكال جديدة للتغطية على المشاكل الحقيقية.
- هل تعتقدون أنه من الممكن أن نعاين محاكمات من قبيل محاكمة 1971 لاسيما وأنه يبدو أن هناك رغبة أكيدة في الإقرار بدولة الحق والقانون ودولة المؤسسات؟
+ لا أظن أن هناك رغبة حقيقية في الإقرار بدولة الحق والقانون ودولة المؤسسات، هناك "رتوشات" لتلميع الوجه فقط، فالدولة المغربية تأسست وتطورت عبر القرون من خلال النهب والاستغلال، لنتذكر علاقة السلطة المركزية بالفلاحين والعمال والحرفيين، لقد كانت تتميز بالنهب والاضطهاد كما شكلت هذه العلاقات إحدى العوائق أمام تراكم فائض اقتصادي وظهور رأسمالية مغربية على غرار ما وقع في أوروبا التي تمكنت شعوبها من تحرير نفسها من الإقطاعيات المطلقة ومن تأثير الكنيسة، مما سهل بروز ثورة علمية وثقافية هائلة.
عبد الجليل البوصيري متتبع للمحاكمة
عدة جهات حاولت استخدام محاكمة الوزراء للنيل من الملك ونظامه
يعتبر عبد الجليل البوصيري أحد المتتبعين عن قرب لمحاكمة الوزراء والموظفين السامين السابقين سنة 1971، في هذه الدردشة معه نفضنا الغبار على بعض ذكرياته بهذا الخصوص، لكونه عاين عن قرب مجرياتها لأنه أختير كمستشار لحضور مجريات الجلسات.
بدأ عبد الجليل البوصيري حديثه بالوقوف على الظرف العام الذي جاءت فيه تلك المحاكمة التي لم يشهد المغرب مثيلا لها، جاءت متابعة الوزراء في ظرف تميز بتعفنات جملة من الإدارات والمؤسسات وارتفاع وتيرة الصراع بين الأمريكيين والفرنسيين بخصوص منطقة شمال إفريقيا، آنذاك لم تكن واشنطن راغبة في المزيد من تدهور علاقاتها مع الجزائر، بعد أن نجحت في تكسير العلاقة بين الرباط وموسكو، لاسيما بخصوص صفقات السلاح، وقتئذ كانت فكرة التخلص من نظام الملك الراحل الحسن الثاني قائمة لدى المخابرات الأمريكية.
ويضيف عبد الجليل.. وقئئذ سمعنا عن صراعات بين القصر وبعض الضباط، وسرعان ما تبين أن هؤلاء حاولوا استغلال تورط بعض الوزراء لتهييء الشارع لشيء ما قادم، كما سمعنا كذلك أن المذبوح كان يشكو من وعكة صحية وسافر على إثرها إلى أمريكا قصد العلاج، وبعد رجوعه دارت أخبار بخصوص سخط الأمريكان على المغرب، وفي نفس الفترة سافر الجنرال محمد أوفقير إلى الولايات المتحدة، قيل قصد علاج عينه، لكن بعد هذا السفر حدث تعديل وزاري، في هذا الجو العام استيقظ ذات يوم المغاربة على فضيحة الوزراء والموظفين الكبار.
وبخصوص المتهمين قال البوصيري.. إن المتهمين كانوا من العيار الثقيل، وزراء تقنوقراط، منهم مامون الطاهري الذي كان مقترحا لمنصب نائب "ماكنامارا" رئيس البنك الدولي آنذاك، والشفشاوني الذي، إضافة للوزارة، أشرف على العديد من الشركات، وكانت الحكومة آنذاك لا تخفي تضامنها مع الوزراء المعتقلين، وكان العراقي يزورهم، أما الجنرال محمد أوفقير فكان يتجه كل سبت إلى مدينة فاس بمعية بلعالم لطمأنة بعض العائلات ودأب على الاجتماع بهم في دار من دور اليوسي هناك، لاسيما زوجة وعائلة الأزرق التي كان على اتصال دائم بها. وما أثار انتباهي، يقول البوصيري، هو أن هناك بعض الأشخاص الذين ظل وضعهم غامضا في الكثير من الملفات، مثل عبد القادر بنصالح (الملقب بفرانكو) والذي سبق له أن كان مدير ديوان امبارك البكاي في الحكومة الأولى، وأظن أنه لم يعتقل لأن الجنرال أوفقير كان في حاجة لتليين موقف الريفيين تجاهه، ونفس الشيء بالنسبة للبلغمي، لم يعتقل لأنه ظل قريبا جدا من مولاي أحمد العلوي.
وعن التحقيق قال البوصيري.. "أظن أنه شارك في التحقيق مع المتهمين كل من محمود عرشان واليوسفي قدوري والغنيمي بالإدارة العامة للأمن الوطني، ومنذ الوهلة الأولى تبين من خلال الاستنطاق أن السماسرة لعبوا دورا حيويا في مختلف الملفات التي فُتِحَت أمام المحكمة، وأهمهم عمر بنمسعود الذي كان ينتمي لعائلة ظلت قريبة من القصر، منهم من اعتقلوا ومنهم من لم يطلهم الاعتقال مثل عبد القادر بنصالح (الملقب بفرانكو).
وكان بنمسعود بجانب مامون الطاهري والشفشاوني المتهمان الرئيسيان في أكبر الملفات، خلال التحقيق معهم اصطدمت هيئة المحكمة بجملة من الصعوبات نظرا لغياب ذوي الاختصاص والخبراء، الشيء الذي مكنهم من المراوغة بسهولة كبيرة.
وبخصوص هيئة المحكمة يرى عبد الجليل البوصيري أنه كان فيها الفاسي والريفي والسوسي، وتساءل هل هي مجرد صدفة أم أن الأمر كان مفكرا فيه؟
عند حديثه عن المحاكمة بدأ البوصيري بالقول إن المتابعة انطلقت بعد رجوع المذبوح من أمريكا وإن الجنرال محمد أوفقير كان على علم دقيق بمختلف الصفقات المشبوهة التي توبع من أجلها الوزراء والموظفون الكبار، وأغلبهم كانوا على علاقة وثيقة به وبالدليمي، وغالبا ما كانت تجمعهم سهرات وليالي حمراء وطاولة البوكير، كما كانوا على اتصال دائم مع بلعالم اليد اليمنى الخفية للجنرال ومستشاره في الظل.
ويعتقد البوصيري أن أمريكا هي التي فرضت محاكمة الوزراء آنذاك لمحاولة النيل من نظام الملك الراحل الحسن الثاني باستعمال ملف "بانام"، وهو الملف الذي ظل بحوزة الجنرال أوفقير، ويرى البوصيري أن أمريكا أرادت إحراج الملك الراحل الحسن الثاني، وقد لعب السفير الأمريكي، هنري تاسكا آنذاك، دورا كبيرا في هذا الصدد، لاسيما وأنه لم ينجح في الدور الذي كلف به في انقلاب الصخيرات، كما استغلت الصحف الجزائرية هذه المحاكمة للنيل من المغرب وقد وصلت إحداها إلى القول بأنها ستعصف بالنظام الملكي.
وعند الحديث عن مجريات المحاكمة أكد البوصيري أن محاكمة الوزراء كانت لينة، وكان رئيس الهيئة الأستاذ الزعاري يتعامل مع الأضناء معاملة حسنة ولبقة جدا، مع ملاحظة، أنه كان يعرف عنهم الشاذة والفاذة، ولم يكن رجال الأمن يقيدون المعتقلين بالأصفاد.. لقد حضرت العاطفة في المحاكمة وكانت رغبة أكيدة لتكون هذه المحاكمة عادلة من أولها إلى آخرها.
ويضيف البوصيري.. حاولت عدة جهات استغلال هذه المحاكمة، فمثلا المحجوبي أحرضان أخذ يتجول في المدن ويلقي خطاباته يوجها فيها الاتهامات للوزراء المعتقلين، كما حاول أوفقير وزبانيته استغلال الفرصة لإظهار أن حكومة التقنوقراط فاشلة بالمغرب، ويظن أن رغبته كانت هي استغلال المحاكمة لتهييء الرأي العام لشيء ما كان في طور الإعداد، أما بخصوص دور اليهود المغاربة، فقد اتضح له أن الوزراء والموظفين الكبار المتورطين اجتهدوا كثيرا للتستر على اللوبي اليهودي الذي ظهرت بصماته في مختلف الملفات الكبرى التي نظرت فيها محكمة العدل الخاصة، كما لاحظ أن مامون الطاهري ومحمد الجعايدي وإدريس بلبشير والأزرق وناصر بلعربي عملوا على محاولة التستر على الوسطاء اليهود، لاسيما دافيد عمار، علما أن اليهود لعبوا دورا حيويا في مختلف الصفقات الكبرى، أكبر من الدور الذي قام به الوسطاء المغاربة، وبخصوص هؤلاء برز اسم بنصالح الذي انطلق لتشكيل ثروته من الصفقات المرتبطة بالفوسفاط كما استفاد من اقتناء الأراضي الفلاحية وبعض الشركات بأثمنة بخسة جدا.
ويختم عبد الجليل البوصيري قائلا بعد صدور الأحكام قيل إن الوزراء المدانين أودعوا بضيعة عوض السجن لقضاء جزء من العقوبة قبل الإفراج عنهم وإقبار الملف نهائيا