espace réservé aux écrits concernant le ROI HASSAN II

الاثنين، 21 ديسمبر 2009

كيف كوّن وراكم الحسن الثاني الثروة الملكية؟




سيظل التاريخ الحديث للمغرب، ولمدة طويلة مطبوعا بفترة حكم الملك الراحل الحسن الثاني، الذي ورث مغربا لكنه ترك مغربا آخر.
هذا الأخير عرف تحولات مع مطلع الألفية الثانية بفعل انعكاسات التغيرات العالمية، وبالتالي فإن بعض الأحكام التي تتخلل الملف الذي نقترحه على القارئ مع بداية السنة الجديدة، قد تكون أحكاما عن فترة أقفلت آفاقها بسبب جملة من التطورات الخارجية، وبالتالي أضحت تعد ملمحا من ملامح التاريخ، لكن تداعياتها وبصماتها القوية مازالت حاضرة بقوة، وبعضها مازال يفعل فعله.. فقد ذهب الكثيرون إلى القول إن الملك الراحل الحسن الثاني كان يعتبر المغرب ملكه والاقتصاد المغربي قضيته وشأنه الخاصين، وقد سبق له أن صرح للتلفزة الدانماركية في 15 فبراير 1986 ما معناه " أنه لو كان من الممكن عبادة غير الله لأقمت معلمة أمامي لأعبد بلدي، لذلك لا يمكن السماح بأي وجه من الوجوه المساس ببلدي.."
فما هو هذا المغرب الذي يتم الحديث عنه من منظور اغتناء الملك الراحل الحسن الثاني والأسرة الملكية؟ وما هي الآليات المعتمدة لمراكمة هذه الثروة؟ وهل كانت نعمة أم نقمة على المغاربة؟
لقد أجمع الباحثون على أن الملك محمد الخامس لم يكن ثريا ولم يكن يولي الاهتمام لجمع أو مراكمة الثروة بل كان يكتفي بما يجعله يعيش مع عائلته عيشة كريمة.
وبعد عودته من المنفى كانت ثروة العائلة الملكية أقل بكثير من ثروة أغنياء المغرب. وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى ما كشف عنه الصحفي "إيناس دال" في كتاباته، وهو الذي عمل خمس سنوات كمراسل للوكالة الفرنسية للأخبار (AFP) بالمغرب، وذلك بخصوص برقية لـ "أندريلويوس ديبوا" مؤرخة في 3 يناير 1956، جاء فيها أن السلطان محمد الخامس كان يرغب أن تقوم فرنسا بتعويضه بشكل مناسب عن 26 شهرا التي قضاها مضطرا رفقة أسرته في المنفى بكورسيكا ومدغشقر، وكان قد قدر ما صرفه بما يناهز 70 مليون فرنك فرنسي عندما كان بكورسيكا.
وفعلا وافقت فرنسا بسرعة فائقة على تخصيص ما قدره 600 مليون فرنك فرنسي كتعويض عن الأضرار، وفي 4 يناير 1956 أذن "آلان سافاري" بتحويل التعويض المذكور إلى حساب السلطان بالرباط
.


الثروة الملكية بين محمد الخامس والحسن الثاني


حسب أغلب المؤرخين والمحللين الاقتصاديين، لم يكن الملك الراحل محمد الخامس ثريا جدا، عندما استعاد المغرب استقلاله سنة 1956.
في حين راكمت العائلة الملكية ثروات طائلة خلال عهد الحسن الثاني، إلا أنها ظلت محجوبة عن المغاربة، فلم يكن الفصل 168 من قانون المسطرة الجنائية ليشجع البحث والتقصي حول مصادر ثروة الملك والأسرة الملكية، ورغم أن المعارضة في عهد الحسن الثاني كانت تندد بالرشوة والفساد إلا أنها كانت تتجنب الحديث مباشرة عن الملك وأسرته.
تعددت وتنوعت مصادر الثروة الملكية بسرعة فائقة في الستينات، عبر الاستمرار في قطاع التجارة الخارجية ومشاركة الرأسمال الأجنبي، آنذاك بدأ يرسم بوضوح الخط الفاصل بين مغربين : مغرب الملك والأسرة الملكية والدوائر المحيطة بالبلاط من جهة، وهو مغرب الثروات والأرباح الطائلة، ومن جهة أخرى، مغرب الفقر الخاضع للقمع الدائم والمستمر، حيث ابتداءا من يوم 7 يونيو 1965 أعلن الملك الراحل الحسن الثاني عن حالة الاستثناء، وأضحى يتحكم في كل شيء إلى حدود سنة 1970.
منذ ذلك الحين أصبح الحسن الثاني الملاك العقاري والمقاول الأول وأكبر صاحب رأسمال بالمغرب، وذلك عبر شبكات متقاطعة من الشركات والأشخاص الذين كانوا يظهرون في الواجهة، فأهم الصناعات المغربية المنتجة لأكبر الأرباح، في المنظومة الاقتصادية المغربية، كانت منذ منتصف الثمانينات بحوزة الملك، وكذلك امتداداتها في الخارج.
فعلاوة على الثروة المتواجدة بالتراب الوطني (أراضي، عقارات، شركات، مصانع، أبناك، قصور، ضيعات ومساهمات..)، فإنه كان يتوفر على حسابات بنكية بسويسرا وأراضي وأملاك عقارية و"رانشات" بأوروبا وأمريكا والبرازيل.. وبعد وضع يده على جزء كبير من خيرات البلاد، عمل الملك الراحل الحسن الثاني على تنمية ثروته خارجها. وفي هذا الصدد اقتنى بمعية أحد وزراء الجنرال فرانكوا سابقا، 2000 هكتار من غابات البرازيل. كما كشف أكثر من مصدر علاقة الحسن الثاني المصلحية بجملة من كبريات الشركات الفرنسية، منها "سكوا" (SCOA) و"بويك " (BOUYGUES) و"صاف" (SAF) و"دوميز" (DUMEZ) و"نادي البحر الأبيض المتوسط" (Le Club Méditerranéen ).



أبناء الحسن الثاني وتركته المالية نزاع الأمراء والأميرات الذي فضه شيراك


حينما وجه الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، دعوة للملك الحسن الثاني لحضور الاستعراض العسكري الفرنسي ليوم رابع عشر يوليوز، وهو امتياز نادر جدا من قادة فرنسا اتجاه نظرائهم عبر أنحاء المعمور، فقد كان واضحا أن الحسن الثاني كان يعرف أن أيامه الأخيرة معدودة في دنيا الحياة والأحياء، فقد كانت نظراته التائهة من أعلى المنصة الشرفية بساحة باب النصر بباريس بادية للعيان، كان يُفكر بدون شك بمصير أولاده من بعده، لذا فإنه بمجرد انتهاء الاحتفال الفخم المذكور اختلى بصديقه جاك وقال له هذه الكلمات بتأثر غير معهود عن الحسن الثاني: "اسمع يا صديقي العزيز، إن أجلي وشيك وإنني أترك لك أبنائي وأحفادي، أرجو أن تكون بمثابة ذلك الأب الذي لن أكونه".
يُمكن القول من خلال العديد من الوقائع التي تلت، إن جاك شيراك التزم بالوعد الذي قطعه مع الحسن الثاني، فقد سارع بمجرد نزوله بمطار الرباط وسلا، في اليوم الموالي لرحيل الحسن الثاني بتاريخ 23 يوليوز 1999، إلى الهمس في أذن محمد السادس: "إنني مدين بالكثير لوالدكم وأنا على استعداد لأفعل كل ما تطلبونه مني". وبطبيعة الحال - كما لاحظ ذلك الصحافي الفرنسي بيير توكوا الأكثر معرفة بكواليس العلاقة الفرنسية المغربية – لم ينتبه الملك الشاب آنذاك لجملة شيراك، واكتفى بالإجابة باقتضاب: "نعم.. نعم شكرا"، وانتقل إلى باقي المعزين من الرؤساء والملوك، غير أن شيراك كان قد وضع نصب عينيه أن يأخذ بيدي الشاب الحديث العهد بشؤون الحكم، كما وعد بذلك والده، غير أن الأيام التي تلت جاءت بمستجدات لم تكن في الحسبان، فحسب بعض المعطيات المتوفرة فإنه بمجرد مواراة جثمان الحسن الثاني، عرفت ردهات وأبهاء القصر الملكي بالرباط حركة جلبة خافتة، بين أغلب المقربين من الملك الراحل، والسبب هو محاولة تأمين المستقبل ضد عاديات الزمن، حيث نشر مثلا بيير توكوا في كتابه "آخر ملك.. أفول سلالة"، معلومات بهذا الصدد، أرجع بعضها إلى السنوات الأخيرة لحياة الحسن الثاني، وفَصَّل مثلا في الواقعة التي حدثت بين المرأة الأثيرة التي كانت لدى الحسن الثاني من كل نساء القصر، ونعني بها فريدة الشرقاوي، فهذه الأخيرة حاولت مد ربيبها هشام منداري بالكثير من الأموال التي كانت قَيِّمَة عليها في غرفة نوم الحسن الثاني، غير أن المعني - أي منداري - استغل الفرصة وقام بسرقة العديد من شيكات الحسن الثاني المُوقعة على بياض، كما أخذ أيضا معه وثائق كثيرة من الخزانة الخاصة للملك ثم ذهب إلى أمريكا وأوروبا مهددا ولي نعمته السابق، بإفشاء العديد من الأسرار الخطيرة الخاصة بالقصر؛ بيير توكوا تحدث أيضا عن الفوضى التي عمت أرجاء القصر، حيث حاولت العديد من محضيات الحسن الثاني، انتزع مجوهرات وحلي وأموال خُفية من خزائن الحسن الثاني بقصر تواركة، وذلك اتقاء لمغبة أيام الخصاص، سيما أن ولي عهد الحسن الثاني - أي محمد السادس - لم تكن نواياه واضحة بشأن مصيرهن، وقد كانت الأجواء الجنائزية التي غرق فيها القصر "مناسبة" لإتيان حركات دخول وخروج من القصر دون إثارة الشكوك، وتحدث البعض عن حلي ومجوهرات وكل ما خف وزنه مما يُمكن للنساء إخفاؤه في أماكن حميمية من أجسادهن، قد خرجت من القصر في تلك الظروف العصيبة.
غير أن الحدث الحقيقي بصدد مصير الكثير من ثروة الحسن الثاني الحقيقية هي التي كانت موضوع نزاع بين أشد المقربين إليه، فحسب الصحافي الفرنسي بيير توكوا المتخصص في إفشاء أكثر الأسرار المغربية غوصا في الصدور، وذلك بالاعتماد على مصادر من حاشية القصر، فإن الرئيس الفرنسي جاك شيراك كان مطلوبا منه ذات يوم من صيف سنة 1999، عقب مرور بضعة أشهر على وفاة الحسن الثاني أن يقوم بزيارة مفاجئة خاطفة إلى العاصمة الرباط، حيث جرى اجتماع مُغلق بينه وبين أبناء الحسن الثاني، وكان الموضوع هو الطريقة التي ستتم بها توزيع التركة المالية الهائلة التي خلفها الراحل، وحسب الصحافي الفرنسي نفسه، فإن نزاعا كان قد شب بين الأمراء والأميرات، لذا كان مطلوبا من جاك شيراك أن يحل الإشكال قبل أن تتحول الأمور إلى ما لا تُحمد عقباه، كأن ينفض المتنازعون عنه ويذهب كل واحد منهم ليقول ما لديه من تظلمات في أماكن شتى من العالم حول "حقه" الذي لم يصله من تركة الحسن الثاني، وكان - حسب الصحافي توكوا دائما - أن استطاع الرئيس الفرنسي مما لديه من علاقات وطيدة، شبه أسرية، مع أبناء الحسن الثاني ( لقد كان رئيس الدولة الأجنبي الوحيد، الذي ينطق أسماءهم العربية بالدقة المطلوبة، في مخارج الحروف حسب توكوا) أن يقترح صيغة لتوزيع الثروة الملكية بين الفرقاء، نالت رضاهم ونزعت فتيل التباغض الذي كان على وشك الاندلاع.
حكى الصحافي الفرنسي المذكور أيضا بعضا من تفاصيل هذا الخلاف الملكي، بين أم الأمراء (لطيفة) ومحمد السادس، حيث كانت المعنية تتبضع يوما ما غداة وفاة الحسن الثاني في أحد أفخم المتاجر بالعاصمة الفرنسية باريس، ليكتشف بعض حراسها الخاصين الأجانب، أن ثمة حراسة أخرى لأم الأمراء كانت تجري دون علمهم، وحينما شكوا في أمرهم، حيث اعتبروهم أفراد عصابة خاطفين، فكان أن حدث الاشتباك ليضطر الحراس السريون إلى الكشف عن هوياتهم باعتبارهم يعملون بأمر من قصر الرباط، فكان أن ثارت ثائرة زوجة الحسن الثاني، وهددت بأنها ستصنع من الواقعة منطلقا لفضيحة دولية مدوية، فتراجع حراس القصر السريون وتركوا المرأة سليلة آل أمحزون تواصل تبضعها في عاصمة النور.



مظاهر الثراء الملكي: كيف اختفت ثم عادت بعد رحيل الحسن الثاني؟


جاء في كتاب "نيكولا بو" و"كاترين غراسيي" (حين يُصبح المغرب إسلاميا) بصدد مظاهر الثراء الملكي بين الحسن الثاني ومحمد السادس ما يلي: ".. بعد مُضي سبع سنوات على رحيل الحسن الثاني حاول ابنه محمد السادس أن يقطع مع مظاهر الثراء والفخفخة المعروفة عن والده، وصحيح أيضا أن محمد السادس شجع وعمَّق الإصلاحات الديمقراطية التي كان أبوه قد التزم بها، مثل حقوق النساء وصولا إلى الحريات العامة. وبالمقابل فإن الملك الشاب تهرب من مسؤولياته في المجال الاقتصادي والاجتماعي. "إن هذا الغر لا يفعل ما يوصيه به جاك"، هكذا اشتكت بيرناديت شيراك (زوجة الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك) للمنشط الإذاعي سطيفان بيرن، وهو ما قام هذا الأخير بنقله إلى صحافيين آخرين: ثمة مثال من بين أمثلة أخرى: فخلال أول دورة من سنة 2005 لم يجتمع مجلس الوزراء سوى مرة واحدة بقصر أكَادير على الساحل الأطلنتيكي، حيث كان مجموع الوزراء مُلزمين بالتنقل إلى هناك ذلك لأن الملك لم يكن يريد ترك هوايته المفضلة، وهي جيت سكي. كما أنه رفض حضور جل المؤتمرات الدولية، كما أن جدول استعماله الزمني أصبح من أسرار الدولة (...) وبالمقابل فإنه سافر كثيرا وبمظاهر ثراء جديرة بما كان يفعله والده الحسن الثاني، وبالفعل فإن بعض المقربين منه ألحوا عليه ليتخذ نمط الحياة الثرية التي كانت لوالده، وذلك بالحرص على الإنفاقات الكبيرة بلا حساب خلال سفرياته عبر أنحاء العالم، وبذلك فإن المخزن استعاد حقوقه. كما عاد أفراد الحاشية بنزواتهم ورغباتهم التي تُكلف غاليا، والوجهات المُفضلة للملك هي: فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، وإيطاليا وأيضا السينغال وأمريكا اللاتينية والهند وجزر الكاريبي والإمارات العربية المتحدة بل وحتى الفيلبين. حيث يرافق الملك مئات الأشخاص من شتى أنواع الأصدقاء والحاشية ممن يبتسمون برضا وهم يتحدثون عن "التبراع" وشتى أنواع الاستمتاع والتمتع...".


السكرتير الخاص للحسن الثاني الذي "منح" ثلاثة ملايير لزوجته الألمانية


يذهب الكثير من العارفين بكواليس المعاملات المالية للقصر أيام الحسن الثاني، إلى أن كاتبه الخاص عبد الفتاح افرج يُعتبر الوحيد الذي كان يعرف "حقيقة" الثروة الملكية عبر أنحاء العالم فضلا عن تشعباتها بالمغرب، ومعلوم أن الرجل – أي افرج – كان متزوجا من امرأة ألمانية، وليس له منها أبناء، وأنه صفى كل ممتلكاته العقارية بالمغرب بعد وفاة الحسن الثاني، ليرحل رفقة زوجته العجوز إلى بلادها ما وراء نهر الراين ( وحسب بيير توكوا فقد كان افرج رافضا أمر الإقامة في فرنسا، على غرار أغلب أثرياء المخزن المغربي، الذين يختارون فرنسا لقضاء آخر أيام حياتهم، حيث كان يعرف أن ثمة تعاون وثيق بين أجهزة الاستخبارات المغربية والفرنسية)، وقد قدر البعض الثروة التي راكمها الرجل نقدا وعدّا، في مختلف الأبناك العالمية بثلاثة ملايير دولار، وحدث أن عبد الفتاح افرج كان قد نال منه المرض الخبيث كل النيل فمات عقب شهور قليلة من تحويل كل الأموال التي راكمها إلى ألمانيا، حيث كانت وفاته في شهر دجنبر سنة 2005، و"تصادف" هذا مع أحد البنود القانونية للإراثة تجعل ممتلكات النساء الألمانيات المتزوجات من أجانب من نصيبهن، وهكذا عض الكثير من أقرباء عبد الفتاح افرج على أصابعهم جراء ضياع كل تلك الثروة المالية الضخمة الذي "شفطها" قريبهم من المغرب على مر عشرات السنين، وذلك بعدما كان قد دخل قصر الرباط، وبالتحديد لتولي منصب صغير مغمور في الديوان الملكي، وهو لا يملك حتى حذاء محترما حسبما كتبه ذات يوم الصحافي المغربي المخضرم، مصطفى العلوي، العارف بالكثير من مثل هذه التفاصيل الصغيرة والكبيرة، عن الطرق التي اغتنى بها الكثير من "المزلوطين" الذين التصقوا بالحسن الثاني وأدوا له الخدمات المخزنية "الجليلة".


آليات مراكمة الثروة الملكية


تعددت الآليات المعتمدة من أجل الإثراء السريع على حساب الشعب، وقد ساهمت الاختيارات الرأسمالية التبعية منذ الاستقلال في توفير الكثير من السبل والطرق لوضع اليد على الثروات الوطنية بسهولة كبيرة قد تبدو أحيانا من قبيل الأشياء التي لا يتقبلها العقل، ومنها استغلال الديون الخارجية والامتيازات وشركاء الواجهة والإصلاح الزراعي و"المغربة" والخوصصة واسترجاع الأراضي من يد المعمرين الفرنسيين وتجميع الأراضي قبل بناء السد قصد استصلاحها لإعادة توزيعها وقوانين الاستثمار في مختلف القطاعات والاتفاقيات الدولية والهبات والمساعدات الخارجية، وغيرها من السبل غير الشرعية من قبل المضاربة في الامتيازات وتسهيلات اقتصاد الريع واستغلال النفوذ والارشاء والارتشاء، والسطو على الخيرات الوطنية وأموال الشعب، وممتلكاته بمجرد إصدار تعليمات شفوية أو عبر الهاتف، هذا في وقت ظل فيه القصر والعائلة الملكية في عهد الحسن الثاني المصدر الأساسي للإثراء ومركزا لمنح مختلف الامتيازات، وهي في عمومها نفس الآليات التي اعتمدها الاستعمار لإثراء المعمرين وعملائه والمتعاونين معه ورجال ثقته.
على امتداد فترة العهد الحسني ظل رجل واحد يتحكم في دواليب المنظومة الاقتصادية المغربية، إنه الملك الراحل الحسن الثاني، أمير المؤمنين والقائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية ورئيس الدولة.
قد يبدو الأمر غريبا في أعين الكثيرين إذا قلنا إن مختلف أساليب القمع والرعب والتخويف تعد، هي كذلك آلية من آليات تكوين الثروة ومراكمتها، وللتدليل على هذا القول تكفي الإشارة إلى ملاحظة تستدعي حقا التأمل، إذ منذ سنة 1956 إلى حدود التسعينات، لم يمر شهر واحد دون أن يكون الفلاحون أو الطلبة أو التلاميذ أو العمال أو المثقفون أو معتقلو الرأي، أو المعتقلون السياسيون أو حاملو الشهادات المعطلون أو حتى الجنود، في قلب حدث من الأحداث، ودون أن تعلن إحدى هذه الفئات عن غضبها أو تنديدها بالوضع المزري.
في خضم الغضب المستشري في صفوف أوسع فئات الشعب خلال الستينات والسبعينات ارتأى الملك الحسن الثاني إصدار سلسلة من قوانين الاستثمار، وخص كل قطاع بقانونه، وقد شكلت هذه القوانين آلية جوهرية من آليات تسهيل مراكمة الثروة الملكية، وكانت البداية بإصدار قانون الاستثمارات الفلاحية في صيف 1969، لإنعاش وتشجيع الاستثمار التكميلي بخصوص التجهيزات التحتية في المناطق السقوية، وبذلك استفاد كبار الملاكين العقاريين من إعفاءات متعددة وبمساعدات خاصة بالبذور والأسمدة والعلف والمعدات واقتناء رؤوس المواشي والاستفادة من مجانية ماء السقي التي تحملت مصاريفه الدولة عوضهم، وعلاوة على هذه المساعدات والتسهيلات أقر قانون الاستثمارات الفلاحية مجموعة من الإعفاءات وإلغاء الرسوم المرتبطة بالمعدات والتجهيزات الفلاحية والإعفاءات من الضرائب غير المباشرة بخصوص كافة التجهيزات بالري، وكذلك الأمر بالنسبة لرسوم التصدير.
ومن المفارقات الغربية، والتي لا يعرفها الكثير من المغاربة، أن بعض المؤسسات المالية المغربية التي كانت تبدو في الظاهر أنها أنشئت لخدمة الاقتصاد الوطني، خلقت خصيصا لتمكين أشخاص بعينهم من تطوير ثرواتهم ومراكمتها، وكذلك لخدمة الرأسمال الأجنبي والمصالح الخارجية ودون علمهم، ومن هذه المؤسسات البنك الوطني للإنماء الاقتصادي (BNDE : Banque Nationale de développement économique)، الذي ظل منذ 1962 تحت مراقبة الرأسمال الأجنبي، لاسيما مجموعة "موركن كوارانتي تروست" (Morgan Guaranty Trust)، وهي تابعة للبنك الدولي، وإلى جانبها أيضا أبناك فرنسية، ففي سنة 1973 منح البنك الوطني للإنماء الاقتصادي قروضا ضخمة لشركات أجنبية، منها "كوديير" و"ماناطيكس" التابعين لبنك عائلة "رولتشيد" بنك باريس والبلاد المنخفضة، (Banque de Paribas) " ولافارج المغرب" (قطاع الاسمنت)و "أنتيرلانس (جيليت).
ومن الأساليب الماكرة المستعملة في عهد الحسن الثاني للسطو "بطريقة قانونية" على ممتلكات الشعب في واضحة النهار، سيادة التعامل بعقلية "التفويتات بالدرهم الرمزي" كآلية من آليات تكوين الثروات ومراكمتها، وللتأكد من هذا الأمر يكفي الرجوع إلى أرشيفات إدارة الأملاك المخزنية وكذلك المحافظات على الأملاك العقارية والرهون في مختلف أنحاء المغرب للوقوف على الكثير من عقود تفويت العقارات والضيعات وأحيانا الشركات بالدرهم الرمزي، لاسيما خلال الفترة ما بين 1961 و1985.
ولم يعد خاف الآن على أحد أن مصدر الامتيازات بالمغرب هي الأسرة الملكية والدوائر المقربة جدا من الملك، علما أنه في فترة ما بين حصول المغرب على الاستقلال وبداية التسعينات، ظل أثرياء المغرب يضعون أنفسهم وما يملكون رهن إشارة الملك الراحل الحسن الثاني ولخدمته، وذلك ليزدادوا ثروة ونفوذا واستفادة أكثر من الامتيازات وتغاضي الطرف بخصوص نهبهم للثروات الوطنية وأموال وممتلكات الشعب. وبذلك يبدو أنه كلما كان أثرياء المغرب يساهمون في توسيع مدى ومجالات ثروة الملك الحسن الثاني وتسريع وتيرة تراكمها وتنوعها يساهمون في ذات الوقت في مراكمة ثروتهم الخاصة، ولعل هذه الممارسة تمثل إحدى الأوجه الحقيقية لشعار، طالما شنف آذان المغاربة خلال أزيد من ثلاثة عقود، وهو شعار "إغناء الفقير دون تفيقر الغني"، في حين أن الواقع المعيش ظل يكرس عكس ذلك، بالتمام والكمال، أي "المزيد من إثراء الأثرياء وتفقير الفقراء".
كما أن الكثيرين كانوا يعتبرون أن الهبات والمساعدات الدولية كانت تعرف طريقها إلى القطاعات والمقاصد المرصودة لها، إلا أنها من حيث لا يخطر على بال هؤلاء، ساهمت بقدر متفاوت، حسب المراحل، في مراكمة ثروة مجموعة من القائمين على الأمور ببلادنا.
وفي هذا الصدد، من المعلوم أن المغرب استفاد، في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، من ملايير الدولارات من أجل تعويض زراعة "الكيف" بمنطقة الريف بمزروعات غير ممنوعة، ورغم ذلك استمر هذا النوع من الزراعة "الممنوعة قانونيا" في التوسع والانتشار حتى أضحت تهم مناطق بعيدة عن الريف. وقد عمل جاك شيراك، رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك، على الدفع لتمكين المغرب من الاستفادة من مساعدات أوروبية مضاعفة القيمة، وذلك مباشرة بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية.
لعبت التعليمات، لاسيما الشفوية منها، دورا حيويا، في إثراء الملك الراحل الحسن الثاني والعائلة الملكية، وكانت تكفي مكالمة هاتفية في أي وقت أو بعث مرسول يحمل رسالة شفوية، لوضع اليد على أراضي فلاحية أو ضيعات أو عقار في أي مكان بالمغرب. ومن الأمور التي سهلت استعمال التعليمات الشفوية كآلة من آليات الثراء السريع التحكم في الشأن السياسي عبر قمع الحركات المنادية بالتغيير وإسكات صوتها بقوة النار والحديد.
ففي مرحلة ما بين فجر الستينات ونهاية الثمانينات عاين المغرب فبركة أحزاب، سميت آنذاك، بأحزاب "كوكوت مينوت"، ظلت تسيطر على الشأن السياسي "الرسمي" والشأن المحلي، شكلت هي كذلك آلية من آليات الإثراء غير المشروع.
كما أن من بين الطرق التي كان يستعملها الملك الراحل الحسن الثاني الاعتماد على أشخاص كواجهة، يشاركونه في جملة من المشاريع أو الصفقات أو يقتنون عقارات ومصالح باسمهم لفائدته، ومن الأشخاص الأجانب الذين كانوا يشاركون الحسن الثاني في الكثير من المشاريع والصفقات المربحة، هناك "روبير ماكسويل"، وهو رجل أعمال مغامر.
وبعد "المغربة" بصيغتيها، (السبعينات والثمانينات)، جاءت الخوصصة لتشكل كذلك آلية إضافية من آليات مراكمة الثروة وتسريع وتيرة تنميتها.
فعندما اقتنع الحسن الثاني بضرورة عولمة الاقتصاد المغربي، حتى قبل بروز مصطلح "العولمة" وشيوعه، اقتنى مجموعة "أونا"، وشرع مبكرا في إعدادها وتهييئها لجعلها شركة عابرة للحدود المغربية والمحرك الأساسي للمنظومة الاقتصادية المغربية، وقد جنى من وراء ذلك أرباحا طائلة.


مكتب التسويق والتصدير


من المكاتب التي ساهمت بشكل كبير في تنمية ثروة الملك الراحل الحسن الثاني والعائلة الملكية، مكتب التسويق والتصدير.
عندما أعلن الملك عن حالة الاستثناء، قام باتخاذ جملة من الإجراءات لمراقبة تسويق المنتوجات الفلاحية المصدرة إلى الخارج؛ وبعد ثلاثة أشهر من انتفاضة مارس 1965، أحدث بظهير (مرسوم) 9 يوليوز 1965 مكتب التسويق والتصدير (OCE: Office de Commercialisation et d Exportation)، الذي عوض المكتب الشريف للصادرات (Office Chérifien des Exportations) الذي خلفته السلطات الاستعمارية منذ سنة 1932.
مع حلول سنة 1966 احتكر مكتب التسويق والتصدير، تصدير الحوامض والبواكر والخمور والمصبرات النباتية، أي ما يفوق 41 بالمائة من صادرات المغرب آنذاك، ومنذئذ عمل هذا المكتب على توجيه الزراعة المغربية لتلبية حاجيات السوق الخارجية وخدمة الصادرات، وكان يتدخل في جميع المراحل بدءا من التقرير في طبيعة المزروعات مرورا بالإنتاج والتعليب والتحويل الصناعي والنقل والتسليم بالأسواق الخارجية.
وكان لمكتب التسويق والتصدير علاقات وطيدة مع جملة من المؤسسات المالية الدولية.
هكذا تمكن هذا المكتب من جعل المغرب مجرد حقل لتوفير الحوامض والطماطم للسوق الأوروبية.
في هذه الفترة تم إعفاء كبار الملاكين من الضرائب ومن الرسوم المرتبطة بالتصدير وكذلك إعفاؤهم من الضريبة على الدخل بدءا من سنة 1984.
وبذلك كان كبار الملاكين العقاريين، ومن ضمنهم الملك، يحققون أرباحا طائلة دون أداء ولو درهم واحد لخزينة الدولة. في نفس الوقت عملت الدولة على تحرير أسعار المنتوجات المصدرة مقابل تجميد المنتوجات المرصودة للاستهلاك الداخلي، الشيء الذي لم يشجع الإنتاج المحلي، فقامت الدولة بتغطية الخصاص باللجوء إلى الأسواق الدولية لاستيراد منتوجات الاستهلاك الداخلي بأثمنة زهيدة وعرضها في الأسواق بأثمنة أخرى مكلفة، وبذلك تمكن المضاربون من تحقيق أرباح مهمة، انضافت إلى أرباحهم المرتبطة بالمنتوجات المصدّرة إلى الخارج.
هكذا ساهم مكتب التسويق والتصدير، كآلية من الآليات، في تنمية ثروات كبار الملاكين، ومن بينهم الملك والعائلة الملكية.
ومن المؤشرات الدالة على سرعة وتيرة تنمية وتراكم هذه الثروات بروز تعميق الفوارق الاجتماعية ما بين 1960 و1971، إذ جاء على لسان فتح الله ولعلو، عندما لم يكن بعدُ قد وضع على عينيه النظارات الوردية، أن مصاريف الاستهلاك الخاصة بـ 10 بالمائة من المغاربة (الأكثر غنى) ارتفعت من 25 إلى 37 بالمائة، فيما انخفضت من 3.3 بالمائة إلى 1.2 بالمائة بخصوص 10 بالمائة بالنسبة للمغاربة الأكثر فقرا بالمغرب.


من الاستعمار المباشر إلى الاستعمار الجديد


منذ فجر القرن التاسع عشر كتب الروائي الفرنسي المشهور "فيكتور هوجو" قائلا: "(...) يا شعوب اذهبوا إلى إفريقيا وخذوا الأرض هناك وحلوا إشكالياتكم الاجتماعية، حولوا بروليتاريتكم إلى ملاكين(...)".
وفي سنة 1903 كتب "أوجين اتيين" قائلا: "(...) هناك (أي بإفريقيا) مناجم الفوسفاط والحديد وأراضي الزراعة الخصبة وأشجار الزيتون(...) طرقا وسككا حديدية وموانئ تنتظر الخلق لفائدة صناعتنا الثقيلة ولشركاتنا ومقاولينا(...) لنؤسس مجالا واسعا، أطرافه مترامية من الخليج إلى المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط فالصحراء الكبرى، يضم تونس والجزائر والمغرب في نطاق إمبراطورية شمال إفريقيا".
هكذا كانت الانطلاقة، وقد سبق أصحاب المصارف والمقاولين فتبعتهم المدافع، للقيام بمهمة حضارية "إدخال شعوب إفريقيا إلى عصر الحضارة وتلقينهم الحرية".
احتلت فرنسا وإسبانيا المغرب، وبعد أكثر من أربعة عقود من الاستعمار، اعتبر الكثيرون سنة 1956 (الاستقلال) أن المغرب مازال غير مؤهل لممارسة الديمقراطية وغير ناضج لاعتمادها، ولذلك قامت مرحلة جديدة من الاستعمار الجديد.
لذلك منحت الدول المستعمرة الاستقلال المنقوص للمغرب، وتجلى هذا النقص بجلاء في مجالات التبعية الاقتصادية والتبعية الاستراتيجية والشعبية الثقافية والتبعية السياسية، وكلها ساهمت في تفعيل ثراء الحسن الثاني والأسرة الملكية، لاسيما مع بداية الستينات. آنذاك كانت فرنسا قد رسخت أقدام عملائها وخدامها في الخريطة السياسية والاقتصادية بالمغرب قبل رجوع الملك محمد الخامس إلى المغرب لاسترجاع عرشه.
ومنذ أن اعتلى الحسن الثاني عرش البلاد سنة 1961، انكب على تكسير شوكة المعارضة، بجميع أشكالها وعلى جميع الأصعدة، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا ودينيا. ومنذ تلك الفترة ترسخت بين فئات الشعب المغربي فكرة تشبيه المغرب بسجن كبير.
علما أن حصول المغرب على الاستقلال (الأعرج حسب رأي الكثيرين) كان بفضل المقاومة ونشوء جيش التحرير، الشيء الذي انعكس على العلاقات بين الوطنيين والبلاط منذ فجر الستينات، بفعل جملة من الأحداث ظلت تداعياتها فاعلة إلى حدود نهاية الثمانينيات، وعلى رأسها، الطريقة التي تَمَّ بها حل جيش التحرير بالشمال وسحق جيش التحرير بالجنوب، عندما أصبح الحسن الثاني، ولي العهد آنذاك، قائما على القوات المسلحة الملكية. وتلى ذلك القمع الدموي الذي تعرضت له انتفاضة الريف من طرف الجيش تحت قيادة الحسن الثاني، ولي العهد، ثم التصدي للمعارضة التي أخذت على عاتقها قلب النظام كسبيل لتخليص البلاد.
هذه بعض معالم بداية عهد الحسن الثاني، والتي وصفها مومن الديوري بمرحلة "الرغبة في جعل المغرب أحسن تلميذ في عين صندوق النقد الدولي".

وجاء عقد السبعينات، فتصاعدت لهجة المعارضة مرفوقة بالقمع الممنهج لكسرها، ولم يكن أمام الحسن الثاني أي خيار إلا الخضوع لتوصيات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والتظاهر باعتماد "الثورة الليبرالية" تحت شعار "إغناء الفقير دون تفقير الأثرياء"، آنذاك كانت كمشة من المغاربة قد استحوذت على أكثر من 90 بالمائة من الثروات الوطنية تاركة بقية الشعب تترنح في أجواء الفقر والحرمان.
وقد رأى مجموعة من المحللين الاقتصاديين، في المسار الاقتصادي الذي سار عليه المغرب، أنه ظل محكوما بضرورة الانصياع للخارج والتبعية له. وفي هذا الصدد اعتبر البعض منهم أن الملك الراحل الحسن الثاني ظل سائرا على هذا الدرب، مما أدى في نهاية المطاف إلى بيع ثروات البلاد ومواردها البشرية وموقعها الاستراتيجي، بعد أن غرقت البلاد في مستنقع الديون الخارجية وبعد أن ارتبطت منظومتنا الاقتصادية بالرأسمال الأجنبي.
وبذلك اعتبر البعض أن ثراء الملك الحسن الثاني، جاء، في جزء مهم منه، نتيجة لهذا الارتباط (ارتباط اقتصادنا بالمصالح الأجنبية).


ألم يكن الملك الراحل الحسن الثاني، الملاك العقاري والمقاول والمالي والمصرفي الأول بالمغرب؟


تنمية الثروة الملكية عبر الخوصصة والمساهمات المتنوعة. فيما بين أبريل ودجنبر 1990، بمناسبة الجدال والحوار بخصوص الإعداد للقانون الذي سيعرف بعد ذلك باسم "قانون الخوصصة" المرخص للحكومة ببيع 112 مؤسسة وشركة عمومية (منها 4 من أكبر الأبناك، هولدينغ مالي، 3 شركات فلاحية، 10 معامل لصناعة السكر، معمل تركيب السيارات، 7 شركات بترولية و37 مؤسسة فندقية)، أجمع المشاركون على تسطير ملاحظة أقلقت أغلبهم، وهي تواجد مجموعة أخطبوطية في قلب المنظومة الاقتصادية المغربية، إنها مجموعة "أومنيوم شمال إفريقيا" والتي كان الملك الراحل الحسن الثاني يملك وقتئذ أكبر جزء من رأسمالها.
فعلا، خلال عقد من الزمن، أصبحت مجموعة "أونا" تشكل العمود الفقري للاقتصاد الوطني وركيزته الأساسية، علما أنها كانت في البداية مجرد نواة تدور في فلك بنك باريس والبلاد المنخفضة، لكنها بدأت تتوسع بفعل ارتفاعات متتالية لرأسمالها وبفعل امتصاصها لجملة من الوحدات والمجموعات منها "كوجيسبار" (COGESPAR) و"سيهام" (SIHAM)؛ وارتكازا على "استراتيجية هجومية" في مجال الأعمال، تم التخطيط بجميع الوسائل لوضع اليد على مجموعة من الشركات العمومية، كما تم رسم خطة لتجميع ومركزة بعض الأنشطة وتوزيع أخرى.
وبذلك تمكنت "أونا"، أن تصبح أضخم هولدينغ مالي بالمغرب منذ بداية الثمانينات، حيث تأكد بجلاء توسعها الأخطبوطي، الشيء الذي جعلها تحقق أرباحا لم يسبق أن تمكنت أية مجموعة من تحقيقها من قبل.
لقد قفز رقم معاملاتها من مليارين و600 مليون درهم سنة 1982 إلى 9 مليارات من الدراهم سنة 1988، كما أن أرباحها قد تضاعفت مرتين فيما بين سنة 1987 و1988، حيث قفزت مما يناهز 223 مليون درهم إلى 448 مليون درهم، وارتفعت مواردها الخاصة بنسبة 62 بالمائة وبلغت قيمتها المضافة مليارين من الدراهم. ومنذئذ لم يتوقف تطورها.
في سنة 1990 بلغ عدد الأشخاص الذين تشغلهم أكثر من 15 ألف، وكانت تملك آنذاك 43 شركة بالمغرب وتراقب بطرق غير مباشرة على أقل تقدير 86 شركة في مختلف القطاعات والأنشطة المربحة. كل هذه الشركات التابعة لمجموعة "أونا" تحتل مواقع استراتيجية في النسيج الاقتصادي الوطني، وقد تم توزيعها كالتالي:
- 10 وحدات في قطاع الصناعات الغذائية والفلاحية وتمثل ما نسبته 20 بالمائة من القيمة المضافة لهذا القطاع، منها 3 وحدات لصناعة الحليب ومشتقاته و3 معامل لصناعة السكر و3 وحدات لصناعة الزيوت.
- 6 شركات منجمية.
- شركتان (2) في قطاع النقل.
- شركتان لتركيب السيارات.
- 3 شركات في قطاع النسيج.
- شركتان في قطاع الصناعة الكيماوية.
- شركة للصيد البحري.
- مطبعة.
- 6 شركات في قطاع الخدمات.
- شركة عقارية ضخمة بحوزتها رصيد عقاري حضري هائل.
- شركتان في قطاع السياحة.
- شركتان في قطاع التأمينات.
- 3 أبناك.
- شركة كبيرة للدراسات والاستشارات المالية.
- محطة تلفزية.
- صحيفة.
- مركز لدراسة التوقعات.
- سلسلة من الأسواق الضخمة (قطاع التوزيع والتجارة)

وشركات أخرى من الصعب تعيينها اعتبارا لتوسع أطراف الأخطبوط الذي تولد من نواة "أونا" الأولى على مر السنين، لاسيما أن درجة الشفافية المالية المعتمدة بالمغرب مازالت غير كافية للتمكن من الإطلاع على كل المعلومات، ونظرا لأن أبواب الإدارات والمؤسسات العمومية مازالت موصدة في وجه الباحثين المستقلين غير الموالين للدولة والمتعاملين معها.
وزادت مجموعة "أونا" من تنمية قوتها الأخطبوطية بفعل ابتلاعها سنة 1988 للبنك التجاري المغربي (BCM)، وبالتالي مراقبة كل الوحدات التابعة له.
ومع تفويت 2.5 بالمائة من رأسمالها إلى البنك الوطني لباريس (BNP)، تمكنت المجموعة من المساهمة بنسبة 13 بالمائة في رأسمال البنك المغربي للتجارة والصناعة (BMCI). ومكنها هذا الرصيد المالي من وضع قدمها في الأسواق العالمية وولوج بورصة باريس، وبفضل هذا الإنجاز استطاعت المجموعة الملكية في عهد الحسن الثاني المساهمة في رأسمال بنك باريس والبلاد المنخفضة (Paribas) ومجموعة "بولوري" (Bolloré) و"التأمينات العامة لفرنسا" (AGF) وشركة بوجو (Peugeot) و"نادي البحر الأبيض المتوسط" (Club Méditerranien).
ومنذئذ اهتمت مجموعة الحسن الثاني بقطاع السياحة أكثر من السابق، حيث برمجت آنذاك إلى حدود 1993 استثمارا سياحيا تفوق قيمته 5 ملايير درهم.
كما أن لمجموعة "أونا" مساهمات أخرى، منها 10 بالمائة في شركة "أسفار هافاس" و10 بالمائة في "دينرز كلوب" (Diners Club) وشركات النقل وشركات استثمار عالمية، كما ساهمت إلى جانب البنك الوطني لباريس في مشاريع صناعية (قطاع الصناعات الغذائية) بفرنسا وألمانيا وبريطانيا وإسبانيا وإيطاليا، وهذا ما جاء في جملة من المقالات نشرتها مجلة "مغرب – مشرق" في أبريل/ يونيو 1990.
في هذه الفترة كان صهر الملك الراحل الحسن الثاني، فؤاد الفيلالي يضطلع بمهمة نائب الرئيس المدير العام للمجموعة.
ومقارنة مع المجموعات المالية الخاصة بالمغرب ظلت المجموعة الملكية "أونا" تحتل المرتبة الأولى بمسافة بعيدة عن المجموعات التي تليها، كمجموعة مولاي علي الكتاني التي كان رصيدها آنذاك (بداية التسعينات) بنكا و32 شركة وشغيلة يناهز عددها 10 ألف شخص، وتأتي بعدها مجموعة كريم العمراني، الوزير الأول السابق، بامتلاكها لبنك و29 شركة.
علما أنه هناك عرفا ظل قائما على الدوام، وهو بمثابة "قانون اقتصادي" متعارف عليه بين كبار أثرياء المغرب، مفاده أنه لا يصح أن يكون بالمغرب شخص أثرى وأغنى من الملك، وبذلك كان من الضروري أن تكون ثروة الملك في عهد الحسن الثاني أكبر ثروة موجودة بالمغرب، وبالتالي استفادته أكثر من غيره وقبل أي كان من الآليات المتوفرة لحيازة الثروة ومراكمتها وتنميتها، سواء أمر بذلك أم لم يأمر به، ما دام أن القاعدة هي عدم جواز وقبول منافسته في أي مجال من المجالات ولاسيما فيما يخص الثروة.


"أونا".. بدأت صغيرة جدا


بفضل التهامي الكلاوي، باشا مراكش وعميل الاستعمار الأول وبدون منازع، تمكن الفرنسي "جون إيبينات" من الاستحواذ على مناجم المغرب وخلق شركة "أومنيوم شمال إفريقيا" سنة 1924 بمساهمة بنك "باريبا" لتدبيرها واستغلالها وجني أرباحها، وبعد سنوات من إنشائها أصبح الملك الراحل الحسن الثاني (ولي العهد وقتئذ) رئيسا مديرا عاما لشركة "سماك" (SMAG)، وهي شركة كانت تابعة لـ "أونا".
أصبح الحسن الثاني، وبطلب من فرنسا، القائم على "أونا" بعد أن مركزت كل المناجم المربحة بالمغرب، لاسيما الذهب والفضة والنحاس والزنك والفوسفاط، إذ أن نسبة 70 بالمائة من أرباحها كانت تذهب إلى خزائن العائلة الملكية.
تطورت "أونا" وتوسعت أنشطتها بعد أن وضعت يدها على الصناعات الغذائية والفلاحية، وأصبحت تراقب 92 بالمائة من المواد الدسمة (الزيوت، الزبدة، الحليب)، و60 بالمائة من السكر، ثم عملت على اكتساح قطاعات جديدة، منها السياحة والتأمينات وتركيب السيارات والنقل ومواد التجميل (Cosmétique) والعقار وغيرها، وبذلك لم يفلت أي نشاط من الأنشطة الاقتصادية ذات الربح العالي من سيطرتها.
كما أن "أونا" تمكنت، في عهد الحسن الثاني، من امتلاك 40 بالمائة من رأسمال ثلاثة أبناك تعتبر من كبريات المصارف بالمغرب، وبذلك أضحى من الضروري على الراغبين في الاستثمار بالمغرب الحصول على الموافقة الشخصية للملك، الفاعل الاقتصادي الأول بالبلاد.
آنذاك بدأ القائمون على الأمور يقدمون مجموعة "أونا" كمحرك من شأنه أن يقود البلاد إلى التنمية والازدهار، وموازاة مع ذلك، كانت ثروات الملك والعائلة الملكية تنمو بسرعة كبيرة، وكذلك الأمر بخصوص الديون الخارجية التي وصلت حينئذ إلى 22 مليار دولار أمريكي، وبلغ يأس الكثير من المغاربة درجة لم يسبق لها مثيل.
ففي المغرب 1992 تم إحصاء 9.2 مليون شخص يعيش تحت خط الفقر و11.2 مليون لا يعرف الكتابة ولا القراءة، هذا ما أقره تقرير الأمم المتحدة للتنمية في مارس 1992.
حسب جريدة "لوموند" الفرنسية، بلغ رقم معاملات مجموعة "أونا" سنة 1991 ما يناهز 8.7 مليار فرنك فرنسي و351 مليون فرنك فرنسي كأرباح. آنذاك انضاف إلى رصيد المجموعة 50.20 بالمائة من رأسمال الشركة الفرنسية "أوبتورك" (OPTORG) الناشطة في التوزيع والصيانة التقنية.
ومن خلال "سيجير" أصبحت مجموعة "أونا" الدرع الاقتصادي للحسن الثاني والبلاط. وبذلك تمكن من جعل مجموعته المجموعة الاقتصادية والاستثمارية الأولى، بدون منازع، بالمغرب.


الأراضي المسترجعة


من الأمور التي لم يستسغها العديد من الفلاحين والكثير من القبائل، قضية مآل الأراضي التي اغتصبها الاستعمار من أبائهم وأجدادهم، والتي رغم استرجاعها من طرف الدولة بعد الاستقلال لم ترد لأصحابها الأصليين، وإنما تم تفويتها إلى جماعة من المحظوظين والمقربين ومسؤولين كبار في الجيش، وذلك بعد أن وضع القصر يده على ما أراد منها. وهذا أمر ظل عسير الفهم بالنسبة للساكنة القروية، لاسيما الفلاحين الصغار والمعدمين، في جميع أنحاء البلاد.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما تجاوزه إلى حد الترامي على بعض الأراضي التي بحوزتهم أو تفعيل مسطرة نزع الملكية قصد المنفعة العامة، كما يقال، لتجريدهم من حق ملكيتها وإجبارهم على قبول تعويض تحدده لجنة الإدارة أو الجهاز القضائي بعد مرور سنوات عديدة، الشيء الذي أدى إلى بروز حركات احتجاجية ساهم فيها فلاحون وأحيانا قبائل برمتها، صغيرها وكبيرها، نساؤها ورجالها، كهولها وشبابها، وأغلبها ووجهت بالقمع الشرس، وهذا ما حدث عندما انتفض فلاحو قبيلة أولاد سعيد بضواحي سطات للمطالبة باسترداد أراضيهم التي كانت السلطات الاستعمارية قد نزعتها منهم ومن آبائهم بقوة الحديد والنار، منحت بجرة قلم، بعد استرجاعها، في نهاية الستينات للمقربين من البلاط.
وكذلك الأمر بالنسبة لأبناء قبيلة أولاد عياد بمنطقة بني ملال الذين قاموا، قومة الرجل الواحد، للتصدي لتحويل مياه الري إلى ضيعة أحد الشخصيات الوازنة المستفيد من الأراضي المسترجعة على حساب حق الفلاحين في مياه السقي.
فمنذ سنة 1956، بعد حصول المغرب على الاستقلال، آلت مجموعة الأراضي المسترجعة أو الأراضي المصادرة من الخونة (لاسيما أملاك التهامي الكلاوي، باشا مراكش وعميل الاستعمار) إلى الملك وبعض المقربين منه ومجموعة من المحظوظين عوض إرجاع الأولى لأصحابها الأصليين. وبعد مرور سنوات قليلة من تربعه على العرش تم تصنيف الملك الراحل الحسن الثاني كأحد أكبر أغنياء العالم العشرة الأوائل.
وفي بداية الستينات، في وقت بدأ فيه الملاكون العقاريون الكبار يستحوذون على الأراضي المسترجعة من الأشخاص الذاتيين الأجانب (المعمرين الفرنسيين الخواص)، أضحت العائلة الملكية بسرعة من أكبر الملاكين العقاريين عبر استخدام وتفعيل مسطرة تفويتها للخواص، غالبا بأثمنة زهيدة جدا لا ترقى حتى للحد الأدنى المتعامل به في السوق العقارية، أي تفويت الأراضي بأقل من قيمتها الآنية بكثير، وأحيانا كثيرة بأثمنة رمزية. ومن الإدارات التي ساهمت في تفعيل آليات التفويت السريع، وزارتي الفلاحة والمالية (الأملاك المخزنية)، هذا قبل اعتماد ما سمي بـ "المغربة" سنة 1973 ثم في الثمانينات.


الديون الخارجية آلية من آليات تكوين الثروة ومراكمتها


قد يبدو من الغريب القول بأن الديون الخارجية ساهمت في تكوين ومراكمة ثورة الحسن الثاني والعائلة الملكية، إلا أن جزءا كبيرا ضخ بالمنظومة الاقتصادية، لاسيما في قطاعات تعرف حضورا قويا للمصالح الأسرة الملكية.
وإذا كانت الديون الخارجية آلية من آليات تنمية الثروات الملكية والمحيطين بالبلاط فإنها كرست نقيض النتائج التي تم الإعلان عنها رسميا، حيث أنها مكنت من رفع متوسط الواردات بما نسبته 16.9 بالمائة في السنة، في حين ساهمت في رفع الصادرات بنسبة 8.1 بالمائة فقط سنويا، علما أنه، لم تستفد المنظومة الاقتصادية الوطنية من العملة الصعبة، إذ أن اقتناء المعدات والتجهيزات الفلاحية من الخارج جعلت مداخيلها تُروّج بالأسواق الأجنبية، في وقت كان من المفروض أن تساهم الصادرات في تنمية مباشرة وسريعة للاقتصاد الوطني.
وبذلك تكون الديون الخارجية قد ساعدت البعض، بشكل كبير، على الإثراء السريع، وشكلت آلية من آلياته، علما أن تلك القروض رهنت مستقبل أجيال من المغاربة إلى حد إيصال المغرب إلى وضعية "السكتة القلبية" أكثر من مرة، وذلك فيما بين 1965 و1990.
علما أن القروض الخارجية لعبت دورا جوهريا في ضرب سياسة الأمن الغذائي التي كان المغرب قد اعتمدها، ووظف استثمارات طائلة في القطاع الفلاحي لبلوغ ضمان أمنه الغذائي عندما كان الحديث جاريا في العالم حول "السلاح الغذائي"، حيث أنه منذ بداية السبعينات انقطع أدنى ارتباط بين الإنتاج الفلاحي العصري وحاجيات الاستهلاك الداخلي ومتطلبات السوق الوطني. كما عرفت واردات مواد الاستهلاك الحيوية توسعا وارتفاعا غير مسبوق ببلادنا.
آنذاك اتضح بجلاء أن الفلاحة المغربية تنتج للخارج وتعمل لتلبية حاجيات ومتطلبات الأجانب، ويعتمد المغرب على الأسواق الخارجية لتلبية حاجيات الاستهلاك الداخلي، وحصل ذلك في أوج الترويج لخطات "ضرورة وحيوية تحقيق الأمن الغذائي".


"المغربة"


بعد الانقلاب الأول (الصخيرات 1971) قدم الملك الراحل الحسن الثاني نزرا من "النقد الذاتي" والكثير من الوعود في خطاب 4 غشت 1971، والذي جاء فيه... "(...) يمكن القول إن المغرب كان حقا كنزا(...) لكن بعض المغامرين سولت لهم أنفسهم التعدي على هذا الكنز وحاولوا الاستيلاء عليه(...) أرادوا الاستيلاء على السلطة والسطو على الممتلكات والأشخاص(...) لقد صرحنا مرارا أن سياستنا الاقتصادية والاجتماعية استهدفت إغناء الفقير دون تفقير الغني. لكن مع الأسف الشديد، لأسباب لا داعي للرجوع إليها، لاحظنا أنه بقدر ما أن الفقير لم يغتن، زاد الغني ثراءا(...) وهذا وضع غير مسموح به(...) وعلى الحكومة المقبلة أن تعمل كل ما في وسعها لإعادة توزيع الدخل الوطني توزيعا عادلا(...)".
بعد هذا الخطاب بيومين عين الحسن الثاني، يوم 6 غشت 1971، كريم العمراني وزيرا أول لطمأنة فرنسا والرأسمال الأجنبي (علما أنه كان وزيرا للاقتصاد في الحكومة السابقة)، وللسهر على تفعيل "المغربة" التي استهدفت منذ 1972 جزءا كبير من الأنشطة الاقتصادية والأراضي المسترجعة التي كانت بيد الخواص الأجانب.
وبفضل هذه "المغربة" تمكن الحسن الثاني من "إرشاء" كبار البرجوازيين وكبار الضباط والمقربين للبلاط، وكذلك تنمية الثروة الملكية، بعد المحاولة الانقلابية الثانية (16 غشت 1972).



وللمخدرات علاقة كذلك


في كتابه "18 سنة من العزلة: تازمامارات" الصادر سنة 1993، أزاح "علي بوريقات" الستار عن تعاون فرنسي – مغربي في مجال تهريب المخدرات، وفي هذا الصدد برز اسم "شارل باسكوا" وزير الداخلية الفرنسي سابقا.
ظلت إشكالية المخدرات حاضرة بقوة كلما نقبنا في موضوع طرق الإثراء السريع في مغرب السبعينات والثمانينات وبداية التسعينات... عائلات ثرية تاريخيا وأخرى حديثة الثراء ارتبط اسمها أو نشاط أحد أفرادها بشبكات تهريب المخدرات والاتجار بها.
وفي هذا المضمار، سبق لجريدة "لوموند" الفرنسية أن نشرت تقريرا في الموضوع تحت عنوان: "المغرب، المُصدِّر العالمي الأول للحشيش" مرفوقا بعنوان فرعي: "تقرير سري يتهم مقربين من الملك الحسن الثاني"، علما أن كاتب المقال اعتمد على بحث سري أنجزه المرصد الجيوسياسي للمخدرات (OGD: Observatoire géopolitique des drogues).
وقبل أن يضر تقريره السري رصد الأنشطة المرتبطة بالمخدرات على امتداد سنوات وخرج بخلاصات بخصوص إنتاج الحشيش والمساحات المرصودة لزراعة "الكيف"، وذلك قبل إصدار حكمه الأخير: "(...) المغرب، المُصدِّر العالمي الأول للحشيش والممون الأول لأوروبا...".
تضمن التقرير الأصلي أسماء وازنة بعينها من الدائرة المقربة جدا من الملك الراحل الحسن الثاني وبعض الوزراء السابقين المتورطين في تهريب المخدرات أو المشاركة فيه، إلا أن بيروقراطيي أوروبا (لاسيما الفرنسيين منهم) التمسوا بسرعة من معدي التقرير سحب الأسماء الوازنة التي تضمنها وعدم تعيين المتورطين.
من القضايا الغريبة التي أثارت العديد من التساؤلات، موقف "جاك شيراك" و"شارل باسكوا" وأجهزة مكافحة المخدرات الفرنسية اتجاه قرار السلطات الهولندية، آنذاك، بخصوص شرعنة بيع الحشيش بالأراضي المنخفضة.
فمباشرة بعد العودة من جولته الإفريقية، التي بدأها بالتوجه إلى المغرب، هاجم "شيراك" السلطات الهولندية على قرارها بخصوص اعتماد سياسة التسامح إزاء ترويج الحشيش بترابها. وقد علّق الكثير من المحللين على الموقف الفرنسي، بكونه أملاه ضرب مصالح رؤوس كبيرة جدا لها علاقة بتهريب المخدرات وتحصد من وراء هذا النشاط أموالا طائلة كانت مدعوة إلى التقلص بفعل ما سموه بـ "المنافسة الهولندية".


الحسن الثاني الأول على رأس الملاكين العقاريين


تمكن الحسن الثاني، في بداية عهده، من وضع يده على خُمس (20 بالمائة من) مساحة الأراضي القابلة للزراعة والأكثر خصوبة بالبلاد في مختلف المناطق الفلاحية بعد رجوع المعمرين الفرنسيين إلى بلادهم.
ويقول مومن الديوري، إن مجموعة من القبائل حاولت المطالبة باسترجاع أراضيها التي سلبها منها الاستعمار بقوة السلاح والنار، إلا أن ممثليها والمتكلمين باسمها لم يجرؤوا على معاكسة أمير المؤمنين بهذا الخصوص.
ظلت ضيعات الملك الراحل الحسن الثاني أحسن وأحدث الضيعات المتواجدة بالمغرب، وكل منتوجاتها مرصودة للأسواق الخارجية، وبالتالي كل الاتفاقيات التي أبرمتها الدولة المغربية مع الدول الأجنبية صبّت مباشرة في اتجاه المساهمة بطريقة مباشرة في تنمية ثروة الملك والعائلة الملكية.
بدأت آليات الاستحواذ على الأراضي الزراعية بعد أن وضعت الدولة يدها على أراضي المعمرين، وقد تزامن ذلك مع التصميم الخماسي 1960 -1964 وحلول الأزمة المالية الخانقة في 1964 – 1965 وتوقيع الملك، يوم 25 يونيو 1964، اتفاقية مع صندوق النقد الدولي للاستفادة من تسهيلات تهم ما قدره 1.3 مليون دولار أمريكي، وكانت هي المرة الأولى التي يستنجد فيها المغرب بصندوق النقد والبنك الدوليين (BM, FMI).
وقتئذ كانت مناسبة سانحة لخبرائهما لإعداد تقرير تمحيصي عن المنظومة الاقتصادية المغربية.
هذا التقرير الذي أقر بالطبيعة الفلاحية للاقتصاد الوطني وبضرورة اعتماد هذا التوجه، مما ساهم في بلورة سياسة فلاحية من أجل دعم الملاكين الكبار على حساب باقي الفلاحين وساكنة العالم القروي، وتمكينهم من الاستحواذ بطرق مختلفة على أراضي صغار الفلاحين والسلالات الاثنية (أراضي الجموع)، وفي هذه الفترة تم الاستيلاء على الكثير من هذه الأراضي مما أجج غضب الساكنة القروية وأشعل فتيل عدة انتفاضات فلاحية، ومنها انتفاضة "أولاد خليفة" بالغرب وغيرها في جهات متعددة من المغرب.
وكان آنذاك قد تم اعتماد سياسة السدود لتوجيه الفلاحة المغربية نحو السوق الخارجية بغية ضمان الحصول على القدر الكافي من العملة الصعبة لإرجاع الديون.
وحسب إحدى مقالات "ميشيل مولر"، كان الملك الراحل الحسن الثاني يعتبر أحد كبار الملاكين للعقارات بمدينة نيويورك الأمريكية.


أجواء مرحلة مراكمة الثروة الملكية بالمغرب


تميزت مرحلة نشأة ثروة الملك الراحل الحسن الثاني والعائلة الملكية وسيرورة مراكمتها السريعة بجو امتاز عموما بالقمع الممنهج والتصدي بقوة لكل أنواع الاحتجاج والتنديد والمطالبة بالحقوق فمنذ 1966 توسعت رقعة احتجاج المثقفين والطلبة والتلاميذ إلى أن حدث الانفجار الاجتماعي سنة 1972.
ففي سنة 1968 شن 7000 منجمي بمناجم خريبكة إضرابا عاما.

وفي 4 مايو 1970 أعلن طلبة الرباط إضرابا عاما دام شهرا بفضل مساندة ودعم الأحياء الشعبية، الشيء الذي أدى بالملك الراحل الحسن الثاني إلى منح دستور جديد قيل إنه دستور "ديمقراطي اجتماعي".
وفي شهر نوفمبر 1970 قدمت الدولة على نزع ملكية أرض بتمارة لفائدة شركة "اسمنت تمارة" التي تعتبر العائلة الملكية من المساهمين في رأسمالها، وقد تضرر من عملية نزع الملكية هذه ما يناهز 10 ألف فلاح. وكذلك الشأن بخصوص "كينك رانش" (king Ranch) بضواحي مدينة مكناس، حيث تم تفويت 13 ألف و500 هكتار للعائلة الملكية من أجل إقامة ضيعة كبيرة لتطوير تربية المواشي الصناعية.
وفيما بين نوفمبر 1970 و1971 انفجرت عدة انتفاضات من طرف الفلاحين في مناطق مختلفة منها الغرب وسوس والحوز.. وكلها ووجهت بالقمع الشرس. ففي منطقة الغرب (القنيطرة)، على سبيل المثال لا الحصر، انتفض سكان "أولاد خليفة"، بعد أن قام أحد المعمرين الفرنسيين ببيع الأراضي التي كانت في ملكه، استنادا لترخيص مسلم من طرف وزارة الفلاحة، إلى مجموعة من الفلاحين المتوسطين من أبناء المنطقة، إلا أنه بعد مدة قصيرة عمدت السلطات على نزع تلك الأراضي من أصحابها الجدد مقابل مبالغ مالية حددتها، وذلك بغرض تفويتها لاثنين من كبار الملاكين العقاريين، قيل آنذاك، إن أحدهما أراد اقتناءها باسمه، كواجهة، لفائدة العائلة الملكية، وبعد أن راجت القضية أمام المحكمة وتم عرضها على العامل وكذلك على أنظار الديوان الملكي، لم يتمكن أصحاب الأرض من وضع يدهم عليها، آنذاك عمل الشخصان اللذان آلت إليهما تلك الأراضي على حرثها، فأحضرا الجرارات، مما أجج غضب أفراد قبيلة أولاد خليفة فمنعوها من التحرك بعد أن اعتصموا أمامها وأوقفوها، فتدخل رجال الدرك الملكي وأطلقوا النار عليهم دون اعتبار للنساء والأطفال الصغار، وكانت الحصيلة 7 قتلى وعشرات الجرحى واعتقالات بالجملة.
وفي 10 يوليوز 1970، هجم تلاميذ هرمومو على قصر الصخيرات، وكان الانقلاب الأول الذي زعزع كيان الملكية لأول مرة في المغرب بعد الاستقلال.
عرفت فترة ما بين نهاية 1971 وبداية 1972 إضرابا واسعا لمنجميي فوسفاط خريبكة وعمال النسيج بالدار البيضاء والرباط وفاس...
ومع حلول سنة 1972 تصدى التلاميذ لإصلاح نظام الباكالوريا بالإعلان عن الإضراب موازاة مع تنظيم مظاهرات صاخبة في مختلف المدن دامت ثلاثة أشهر. تصاعدت وتيرة القمع واتسعت دوائر الاعتقالات همت الطلبة والأساتذة ومجموعة من المثقفين، على إثرها تناسلت مظاهرات أكثر صخبا واتساعا للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين والمختطفين، فكانت بداية مسلسل التصدي لليسار المتطرف.
وفي مارس 1972، تم طرد 8500 طالب من الجامعة من أصل 13 ألف. آنذاك قام الملك الراحل الحسن الثاني بمنح دستور ثالث الذي قيل إنه "ديمقراطي واجتماعي"، كما حدث بمناسبة منحه الدستور الثاني.
وفي 16 غشت 1972، كانت المحاولة الانقلابية الثانية بعد الهجوم على الطائرة الملكية العائدة من الديار الفرنسية.
وفي مارس 1973 انطلقت أحداث خنيفرة وكلميمة سعيا وراء إشعال فتيلة الانتفاضة الشعبية ضد الملكية.
وفي غضون سنة 1973 تمكن صحراويون من احتلال مركز حراسة عسكري إسباني، فكانت انطلاقة حركة البوليساريو المسلحة.
وبعد سنتين أعلن الحسن الثاني عن تنظيم المسيرة الخضراء، وفي 14 نوفمبر 1975 وقع المغرب وموريتانيا وإسبانيا على الاتفاق الثلاثي الرامي إلى توزيع الصحراء.


تنمية الثروة الملكية على حساب الإفلاس الاجتماعي


إن سيرورة مراكمة الثروة الملكية في عهد الملك الراحل الحسن الثاني تزامنت مع سيرورة الإفلاس الاقتصادي والاجتماعي.
يجمع أغلب المحللين الاقتصاديين على أن السياسات التي اعتمدها الراحل الحسن الثاني أدت إلى شبه إفلاس للوضعية الاقتصادية والاجتماعية بالمغرب من سنة 1961 إلى سنة 1999، إذ أن البؤس أضحى نصيب الكثير من المغاربة، والغنى والترف الفاحش من نصيب كمشة من المحظوظين والمقربين.
كما أن الفساد والرشوة واستغلال النفوذ لم تعد مجرد معضلات اجتماعية استشرت بقوة في النسيج المجتمعي، وإنما أضحت آلية من آليات التسيير والتدبير ومراكمة الثروات الطائلة. وما هذه المظاهر إلا تعبيرات وانعكاسات لنهج معين لحكم لم يتوقف على امتداد أكثر من ثلاثة عقود، رغم كل الوعود المصرح بها في الخطابات الرسمية، في إقامة ولو درجة حد أدنى من العدل الاجتماعي كان من شأنه أن يقلص الفوارق الاجتماعية الصارخة ويحد من فداحة الهوة السحيقة التي ظلت تفصل بين الكمشة الأكثر ثراء المستحوذة على مصادر الثروة والسواد الأعظم من المغاربة الذين ظلوا يعيشون أوضاعا صعبة ما فتئت تتردى مع مرور الوقت. وكانت النتيجة هي احتلال المغرب للمراتب المتأخرة بين الدول، وأكثر من 10 ملايين مواطن يرزحون تحت عتبة الفقر المدقع وأزيد من ثلاثة أرباع ساكنة البلاد لا يحصلون على الحد الأدنى للأجور، المعتمد بالمغرب، وأكثر من 85 بالمائة ظلوا محرومين من التغطية الاجتماعية والصحية في العهد الحسني، وبقيت الأجور تتفاوت ما بين 1 وألف، وما يناهز 40 بالمائة من الشباب يرزحون تحت وطأة البطالة. هذه هي الوضعية التي ظلت ترافق مراكمة الثروات الطائلة بالمغرب.


"قصة" تداولتها بعض الصحف الأمريكية


قصة قد لا تخلو من بعض الغرابة، تداولتها بعض الصحف الأمريكية قبل الانقلاب العسكري الأول (الصخيرات صيف 1971)، وهي قصة "المهمة الخاصة" التي قيل إنها كانت وراء تفكير المذبوح في قلب النظام الملكي بواسطة انقلاب عسكري على الحسن الثاني يوم احتفاله بعيد ميلاده.
فقبل انقلاب الصخيرات في يوليوز 1971 بشهور معدودة، كلف الملك الراحل الحسن الثاني المذبوح بمهمة سرية وخاصة بالولايات المتحدة الأمريكية تحت غطاء تهييء زيارة ملكية خاصة لأمريكا، كان من المقرر أن يقوم بها الملك في الأسبوع الأخير من شهر أبريل من سنة 1971. في حين كانت المهمة الحقيقية هي البحث والتقصي عن أسباب غضب حكومة واشنطن من المغرب آنذاك.
وحسب مجلة "اكسبريس" الفرنسية تمكن المذبوح من اكتشاف الأسباب الكامنة وراء الغضب الأمريكي بسهولة كبيرة، إذ علم أن الأمر يتعلق برسالة وجهها المدير العام لشركة "باناميريكان إيرويز" إلى صديقه "وليام روجس" كاتب الدولة بالبيت الأبيض، مرفوقة بنسخة من كتابات واردة من المغرب وتهم قطعة أرضية كائنة بالعاصمة الاقتصادية، الدار البيضاء، كانت الشركة الأمريكية المذكورة أعلاه ترغب في اقتنائها لتشييد فندق راق عليها.
وفي إحدى تلك الرسائل التي توصل بها كاتب الدولة الأمريكي، أضاف أحد المقربين للقصر والقريبين من دائرة الملك، بخط يده العبارة التالية: "لاستكمال صفقة اقتناء القطعة الأرضية المعنية وجب دفع كذلك 600 مليون...".
إضافة لهذا، اكتشف المذبوح، وهو بالديار الأمريكية، وجود شبكة منظمة لتهريب المعادن النفيسة، تحت إشراف شخصيات مغربية وازنة، بعض عناصرها من ضمن الدائرة المقربة للملك الحسن الثاني آنذاك.
وبعد فشل انقلاب الصخيرات 1971، قيل إن هذين الاكتشافين هما اللذان دفعا المذبوح للإعداد للانقلاب بسرعة. ولعل هذه النازلة، من شأنها تبيان أن آليات مراكمة الثروة في عهد الحسن الثاني لم تقتصر على الطرق المشروعة التي تخولها القوانين الصادرة لهذا الغرض، وإنما تجاوزتها إلى استخدام طرق غير مشروعة يعاقب عليها القانون الجاري به العمل

إدريس ولد القابلة ومصطفى حيران

الخميس، 17 ديسمبر 2009

ما يناهز 5000 قتيل على عاتق البصري


2006

ما يناهز 5000 قتيل على عاتق البصري


ظل إدريس البصري رجل العقود الثلاثة الأخيرة الذي يمقته الكثير من المغاربة، باعتبار أن اسمه ظل مرتبطا بكل الانتهاكات والتجاوزات التي عرفها المغرب فيما بين 1973 و 1996.

إن ما حصل منذ منتصف السبعينيات من اعتقالات تعسفية واختطافات ووفيات في مخافر الشرطة وتعذيب وتنكيل واختفاء قسري كان وراءها، بشكل أو بآخر، إدريس البصري كمسؤول أول عن الداخلية وكقائم على الأجهزة الأمنية. وقد ثبت تورطه بهذه الصفة في الكثير من الانتهاكات الجسيمة والتجاوزات الكبرى التي عرفتها البلاد فيما بين توليه المسؤولية إلى حدود خلعه في نهاية التسعينيات.

كل التقارير المتعلقة بالفترة التاريخية الممتدة ما بين 1974 و 1999، لاسيما تلك الموصوفة بالموضوعية، تفيد أن إدريس البصري يعتبر رأس الحربة بخصوص الفوضى والإجرام والانتهاكات والتجاوزات التي كانت البلاد مسرحا لها آنذاك.

فالمنطق يقول إن تلك المشاكل وأخرى ما زالت لم تكشف بعد عمن كان وراءها، وأن وزير الداخلية الأسبق له يد فيما حصل على امتداد فترة اضطلاعه بالمسؤولية، كما أن دوره أضحى مؤكدا الآن بالنسبة للعام والخاص فيما يرتبط بتعطيل السيرورة التنموية للبلاد نحو الديمقراطية. فأغلب النقط السوداء التي طبعت مرحلة ما بين 1974 و 1999 ارتبطت بشكل أو بآخر، باسم إدريس البصري.

والآن وقد أصدرت هيئة الإنصاف والمصالحة تقريرها النهائي، يعتقد الكثيرون أنها كشفت جملة من الحقائق المهمة، لكنها لم تشكف الحقيقة كلها. وهذا ما دفعنا إلى التساؤل، في ملف هذا العدد، عن حجم ضحايا جزء من الفترة التاريخية التي اهتمت بها الهيئة، فترة ما بين 1974 و 1999، وهي المرحلة المتزامنة مع اضطلاع إدريس البصري، الرجل الثاني بعد الملك آنذاك، بمسؤولية الإشراف على الإدارة الترابية (وزارة الداخلية) وعلى الأجهزة الأمنية (مديرية الأمن الوطني والقوات المساعدة ومديرية مراقبة التراب الوطني)، وذلك لمحاولة الإجابة على سؤال: كم هو عدد قتلى ومجهولي المصير؟ وهل يتحمل إدريس البصري مسؤولية بخصوصها؟

اعتمدنا في تهييئ هذا الملف على معطيات استقيناها من مصادر مختلفة. ارتكزنا على تقارير وبيانات وأرقام صادرة عن الجمعيات والهيئات الحقوقية الوطنية والعالمية وعلى أدبيات الجمعية المغربية لحقوق الإنسان والمنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف الساعيان للمساهمة في كشف الحقيقة كاملة والعمل على إنصاف الضحايا ورد الاعتبار إليهم ووضع حد لظاهرة الإفلات من العقاب التعسفي والتعذيب والقتل وهذا من أجل إرساء سيادة القانون وحقوق الإنسان.

ومهما يكن من أمر، تظل عملية إحصاء المغاربة الذين فقدوا حياتهم من أجل التغيير أو بسبب التجاوزات الكبرى والدوس على القانون من المهام الصعبة بمكان، وبالتالي ستبقى النتائج المتوصل إليها نسبية، علما أنه، خلال الفترة التي صال وجال فيها الوزير المخلوع، إدريس البصري، لم تعرف فقط انتهاكات جسدية جسيمة وتجاوزات كبرى بل تعدى ذلك إلى مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.


حلفاء البصري في الخفاء
كان إدريس البصري أقوى رجل في المغرب بعد الملك الراحل الحسن الثاني فيما بين 1974 و 1999، وهذا ما مكنه من تأسيس شبكة من المقربين له والذين ظلوا من حلفائه الاستراتيجيين بعد تنحيته في نهاية التسعينيات.
ولا يخفى على أحد الآن أن تأثير إدريس البصري لازال سائر المفعول في جملة من الأوساط وبين جماعة من الأشخاص. وكثير منهم ما زالوا يحتلون مواقع المسؤولية إلى حد الآن.
كما أن لإدريس البصري أصدقاء وحلفاء خارج المغرب، إذ تمكن من ربط علاقات وطيدة مع بعض الشخصيات الأوروبية نذكر منها "ديبري، رئيس المجلس الوطني الفرنسي و "ميزو" رئيس المجلس الدستوري الفرنسي و "باندرو" المسؤول الكبير سابقا في الداخلية الفرنسية. وقد أكد أكثر من مصدر أن إدريس البصري ساعد هؤلاء ودعمهم عندما كان في أوج سلطته، يصول ويجول بالمملكة المغربية بدون حسيب ولا رقيب. كما أن ما تم كشفه بخصوص تمويل حملة الرئيس شيراك الانتخابية ودور الوساطة الذي اضطلع به بهذا الخصوص يؤكد بجلاء صلابة تلك العلاقات.
فهل هذه العلاقات ستصبح عديمة الجدوى مع استمرار كشف مسؤولية إدريس البصري المباشرة منها أو غير المباشرة، فيما جرى بالمغرب من تجاوزات كبرى وانتهاكات جسيمة وفضائح مالية؟ وإن حصل هذا. فهل إدريس البصري سيخرج من جعبته أوراقا للضغط؟ هذا ما ستكشفه لا محالة الأيام القادمة، باعتبار أن ملف البصري لا زال في بداية بداياته.



الوفيات


أكد تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة على سقوط 322 ضحية إبان المظاهرات كما أحصى التقرير ما يناهز 9779 انتهاكا جسيما لحقوق الإنسان (تعذيب، اختفاء قسري، اختطاف، اعتقال تعسفي، اعتداء جنسي)، وأقر بأن 174 شخصا وافتهم المنية رهن الاعتقال التعسفي، وكانوا ضحية للاختفاء القسري ما بين 1956 و 1999 بدون التمكن من التعرف على أمكنة دفن الجثث.
وحسب هذا التقرير، فإن 109 معتقل وافتهم المنية في حالة اعتقال في السبعينيات و 9 خلال الثمانينيات و حالتين (02) فقط في التسعينيات، حين ظلت 66 حالة اختفاء دون التوصل لأي معلومة بصددها. ومنها 89 حالة وفاة رهن الاحتجاز المتعلقة بأشخاص لا صلة لهم بالمجال السياسي والرأي والمعارضة والمطالبة بالتغيير. وبخصوص حالة الوفاة رهن الاعتقال التعسفي أحصى التقرير 173 حالة منها 120 حالة فيما بين 1974 و 1999 وكلها حالات مرتبطة بالقضايا السياسية ولم تأخذ بعين الاعتبار حالات الوفيات الخارجة عن النطاق السياسي والنقابي والجمعوي.
أما الجمعية المغربية لحقوق الإنسان فتقدر عدد القتلى ما بين 5000 و 6000 ضحية خلال الفترة الممتدة من 1956 إلى 1999، مشيرة إلى أنه من الصعب بمكان الوقوف على العدد الحقيقي بحكم التعتيم الذي لازال يطال جملة من الأحداث وعلى رأسها أحداث الريف الدامية وانتفاضات الغضب الشعبي في جملة من المدن المغربية، وبذلك تعتبر أن الأرقام التي تضمنها تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة لازالت بعيدة جدا عن الحقيقة. وبهذا الخصوص تقدر الجمعية عدد القتلى الذين سقطوا في مظاهرات الثمانينيات ما بين 600 و 1000 ضحية.
وحسب تقارير المنظمات الحقوقية الأجنبية والمعطيات الواردة في أدبياتها بخصوص المغرب، يمكن تقدير ضحايا سنوات الرصاص، القتلى ومجهولي المصير منهم بالآلاف مع التأكيد على أن أكثر من 100 امرأة وافتها المنية رهن الاعتقال التعسفي أو الاحتجاز.
علما أنه وجب، إضافة إلى هذه التقديرات، التطرق إلى حالات الوفاة التي طرأت بمخافر الشرطة أو أماكن الاعتقال، السرية منها والعلنية، والتي همت أناسا لا علاقة لهم بالمجال السياسي.
واستنادا على عملية تراكمية لأرقام وبيانات وتقارير حقوقية وما نشر من أخبار ومعطيات في الصحف المغربية بخصوص الوفيات الغامضة وما تم التستر عليه من حالات تمس الحق في الحياة تورط فيها رجال الأمن أو شخصيات وازنة، هذا المجهود أدى إلى تجميع حصيلة تناهز 2300 ضحية ما بين 1974 و 1999، ما دامت الأغلبية الساحقة لهذه الوفيات، إن لم تكن كلها لم تخضع لتحقيقات علنية ولم تقل العدالة بخصوصها كلمتها الفصل وحددت المسؤولية إزاءها بوضوح، وبالتالي تظل وفيات مشبوهة يتحمل فيها القائمون على المصالح الأمنية المسؤولية، وعلى رأسهم إدريس البصري.
وهذا الرقم وجب إضافته إلى الأرقام المرتبطة بما وصف بالقضايا السياسية وقضايا الرأي للحصول على حصيلة إجمالية تقريبية.


الحصلية

قادنا التنقيب وتجميع أكبر عدد ممكن من المعطيات، استنادا إلى أدبيات المنظمات الحقوقية الوطنية والهيئات الحقوقية الدولية وتتبع ما نشر في الصحافة الوطنية، إلى حصيلة تناهز 5000 ضحية سقطت فيما بين 1974 و 1999، فقدوا حياتهم في أحداث اجتماعية أو رهن الاعتقال أو لازالوا في عداد مجهولي المصير وهذا العدد التقديري لا يقتصر على الذين فقدوا حياتهم من أجل التغيير أو من أجل أفكارهم وأرائهم أو انتمائهم، وإنما يشمل كذلك الأشخاص الذين لا تربطهم أي صلة بالمجال السياسي أو النقابي أو الجمعوي لكن فقدوا حياتهم عندما كانوا ضيوفا رغما عنهم بالمصالح الأمنية في إطار ملفات مرتبطة بقضايا الحق العام.
عاش المغرب خلال جزء كبير من مرحلة إدريس البصري، في نفق مظلم قوامه السجون والمعتقلات السرية، الاختطافات، التعذيب، القتل والدفن في أماكن سرية والقهر والقمع المادي والمعنوي والإهانة والدوس على الكرامة الإنسانية والصفة الآدمية. وقد أدى أبناء الشعب المغربي الثمن غاليا سبيل الخبز ومن أجل الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية. هذا في وقت كانت فيه أقلية تراكم الثروات بدون حق ولا قانون على حساب أكثر من سبعة ملايين من أبناء الوطن يعانون من وطأة الفقر المدقع.
وإذا كان لابد من الإقرار بحصيلة، فإن المعطيات المتوفرة لازالت غير كافية بما يساعد على جرد دقيق وشامل لمختلف الضحايا الذين لقوا حتفهم أو ظلوا مجهولي المصير إلى حد الآن.
ففي نهاية سنة 1998، أعلن محمد أوجار، وزير حقوق الإنسان حينئذ، عن لائحة تضم 112 حالة للاختفاء، من ضمنها 56 حالة تأكدت وفاتهم رهن الاحتجاز وتم تسليم شواهد الوفاة لذويهم.
لكن ما رافق عمل هيئة الإنصاف والمصالحة منذ البداية فند منذ البداية هذا الرقم الهزيل جدا، إذ تم إيداع أكثر من 52 ألف طلب منها 30 ألف خارج الأجل وهي الطلبات التي لم يعرف مآلها إلى حد الآن.
أما الفيدرالية العالمية لحقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووش ومنظمات أخرى ظلت تتحدث تارة عن المئات وثارة أخرى عن الآلاف بخصوص المتوفين ومجهولي المصير فيما بين 1956 و 1999.
إن انتفاضة يونيو 1981 كانت انتفاضة غضب فجرتها جماهير بعض المدن الكبرى تنديدا بتردي الأوضاع الاجتماعية وهو غضب أججه الطابع الافترائي للخطاب الرسمي حول الديمقراطية آنذاك.
وهي أحداث تدخلت فيها آليات القمع بقوة، الشيء الذي أدى إلى سقوط العديد من الضحايا، يفوق كثيرا العدد المعلن عنه.
وكذلك الأمر بالنسبة لأحداث 1984 والتي عرفت أوجها في مدن الشمال حيث كان القمع دمويا بالناظور على سبيل المثال وقد بلغ عدد الضحايا حسب تقاطع المعلومات والبيانات الواردة في أدبيات المنظمات الحقوقية الوطنية والهيئات الدولية وما نشر بالصحافة، إلى ما يناهز 250 قتيلا، وبخصوص أحداث سنة 1990 نشرت فرانسبرس، حسب مصدر طبي، أنه سقط بمدينة فاس ما يناهز 100 قتيل على الأقل وهذا ما أعلنته كذلك نشرة لندن، في حين أن وكالة المغرب العربي لم تعلن إلا على قتيلين.
وبطنجة كانت الحصيلة ما بين 10 و 15 قتيلا. فهناك فجوة شاسعة بين الأرقام التي أعلنتها هيئة الإنصاف والمصالحة والحقيقة بخصوص أحداث 1981 و 1984 و 1990. علما أنه وجب التذكير أن الهيئة في واقع الأمر انطلقت من الملفات المودعة لديها وليس من أرشيفات المصالح الأمنية، كما أنه لا يمكن الجزم بأن كل الضحايا قدموا طلباتهم، علاوة على أن 30 ألف ملف وضع خارج الآجال المحددة لذلك ولم يؤخذ بعين الاعتبار وهذه كلها عوامل من شأنها تفسير عدد الأرقام المعلنة عن الحقيقة، لاسيما فيما يتعلق بالوفيات ومجهولي المصير.
وقد عملنا على التنقيب في مختلف المعطيات المتوفرة في أدبيات الهيئات الحقوقية الوطنية والدولية البيانات والبلاغات والتقارير المنشورة بالإعلام الوطني وعلى شبكة الانترنيت وقمنا بمقارنتها مع المعطيات الرسمية ومعطيات صادرة عن جهات مستقلة أو متضمنة في دراسات أو أعلن عنها في ندوات ولقاءات مرتبطة بالإشكالية الحقوقية بالمغرب وبما جرى في عهد إدريس البصري، فتوصلنا إلى رقم يتموقع ما بين 4500 و 5000 ضحية (قتلى أو مجهولي المصير) فيما بين 1974 و 1999، أي بمعدل 196 و 201 ضحية في السنة في عهد إدريس البصري، وهو رقم اعتبره الكثير من متتبعي الشأن الحقوقي بالمغرب غير بعيد عن الحقيقة.


كيف توصلنا إلى رقم: 5000 قتيل؟

كان منطلقنا هو الأرقام المعلن عنها من طرف الجهات الرسمية، والتي أعلنت عن 121 (لجنة التحكيم) ثم مختلف الأرقام المعلن عنها من طرف المنظمات الحقوقية التي اهتمت بالأساس بالضحايا المرتبطين بالمجال السياسي والنقابي والجمعوي والذي تأرجح بين 1500 و 3500 حسب الفترات وتقدم عمل وتنظيم لجان الضحايا وتجميع المعلومات، بخصوص المتوفين ومجهولي المصير.
وبعد صدور تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة، سبق لجريدتنا أن قامت بدراسة النتائج المعلن عنها ومساءلة الأرقام، وطعمت هذا العمل بالاهتمام بالطلبات المودعة خارج الأجل والتساؤل بصددها وبصدد الضحايا أو دويهم الذين لم يودعوا أصلا طلباتهم لدى الهيئة أو المواطنين عبر ربوع المملكة الذين ظلوا خارج التغطية إلى حد الآن.
أما بخصوص الجهات الأجنبية، فقد تم الاعتماد على أدبيات الهيئات الحقوقية الدولية المرتبطة بالمغرب وجمعيات المغاربة القاطنين بالخارج والتي اهتمت بالإشكالية الحقوقية عبر ندوات ومناظرات على شبكة الويب وتبادل الآراء والمعطيات بصددها عبر مواقف إلكترونية.
وهذا ما قادنا إلى تجميع معطيات متناثرة أوصلنا إلى تقدير غير بعيد عن تقديرات الجمعية المغربية لحقوق الإنسان والمنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف ولجان ضحايا وذويهم وهذا ما قادنا إلى تقرير ما بين 100 و 4000 حالة وفاة ومجهولي المصير فيما بين 1974 و 1999 وكل هذا بخصوص الضحايا في المجال السياسي والنقابي والجمعوي.
أما بخصوص حالات الوفايات ومجهولي المصير الذين لا صلة لهم بالمجال السياسي، فاعتمدنا بالأساس على ما نشر في الصحافة الوطنية. بخصوص المساعدة وبيانات وبلاغات الهيئات الحقوقية بهذا الخصوص، لاسيما ابتداء من منتصف التسعينيات.
ومن يرغب في تجميع المعطيات المؤدية إلى التقديرات الإجمالية التي توصلنا إليها نحيله على أدبيات الهيئات الحقوقية والندوات التي نظمتها في هذا الصدد ومعطيات المنظمة العالمية المناهضة للتعذيب والخاصة بدول شمال إفريقيا والمعطيات المدونة بمختلف المواقع الإليكترونية لمختلف المنظمات الحقوقية الدولية والجهوية وجملة من المواقع الحرة المهتمة بحقوق الإنسان، نذكر منها على سبيل الاستئناس موقع "فولتير"و "ليبيرتاس" و "unhchr.chfhbs".

الريف
عرفت أحداث الريف في نهاية الخمسينات (1959) ومنتصف الثمانينيات سقوط العديد من الضحايا، وقد أكد عبد السلام بوطبيب، أحد النشطاء الجمعويين البارزين بالمنطقة والمساهمين في "نداء الريف"، أنه سبق وأن وجه عبد الكريم الخطيب كتابا إلى التهامي الوزاني حدد فيه بالضبط مكان مقبرة جماعية سرية تحتضن ضحايا الريف. كما أنه أفاد أن هناك مدافن سرية موزعة بين الناظور (ثكنة التويمة) والحسيمة، وهذا ما أكده كذلك سائق سيارة إسعاف ساهم في نقل الجثث وكذلك أحد شاهدي عيان. علما أن هيئة الإنصاف والمصالحة لم تقف إلا على مقبرة بالحسيمة، قيل إنها ضمت 11 من رفات المفقودين استنادا على الذاكرة الشعبية الريفية وتقارير جملة من جمعيات أبناء الريف في المهجر وأعمال الندوات واللقاءات المنجزة خارج المغرب بخصوص الريف كادت تجمع على أن عدد القتلى والمفقودين يعد بالمئات وتتراوح الأعداد المصرح بها ما بين 1500 و 7000 بين قتيل ومفقود، منها أكثر من 2500 حالة تخص مرحلة السبعينيات والثمانينيات.
كما أن هناك جملة من المعطيات، بهذا الخصوص، وردت في بيانات صادرة عن بعض الهيئات الحقوقية الأوروبية أو وردت في بعض تقاريرها. كما أن بعض وسائل الإعلام الأوروبية المكتوبة أشارت لبعض المعطيات بخصوص أحداث 1984. وبإجراء عملية تجميع وتقاطع بين مختلف تلك المعطيات يتبين أن عدد القتلى والمفقودين يتأرجح ما بين 191 و 1800 حسب تلك المصادر.
وإضافة إلى القتلى والمفقودين وإلى ضحايا الاختطافات والاعتقال التعسفي والاختفاء القسري، اضطر سكان الريف إلى قبول شروط الهجرة المهنية لانسداد الأفق أمامهم من جراء التهميش الممنهج لمنطقتهم وحرمانهم من سيرورة التنمية التي عرفتها البلاد على علتها، الشيء الذي دفع أبناءها إلى الارتماء في دوائر الاتجار بالمخدرات والتهريب لغياب فرص الشغل.
وهذا ما يعنى ضرورة المصالحة ليس مع الإنسان الريفي فقط، وإنما كذلك مع الفضاء والذاكرة والتاريخ.


مسؤولية إدريس البصري لا غبار عليها


"إن سنوات الجمر والرصاص التي استغرقت أربعة عقود لم تكن مرحلة عادية، حيث كان يهيمن القهر والاستبداد والتسلط على كافة المجالات الحياتية إلى درجة شدت حركة البلاد إلى الخلف، تاركة إياها في عداد الأمم الغارقة في ممارسات لا تمت إلى احترام الإنسان وصون كرامته" هكذا يصف المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف هذه المرحلة.
ومنذ انطلاق العمل المتعلق بالنظر في انتهاكات وتجاوزات الماضي في منتصف التسعينيات، بدت بجلاء مسؤولية إدريس البصري فيها، حيث أنشئت اللجنة الأولى لتعويض الضحايا والتي ظل عملها ناقصا لأنه لم يتطرق لموضوعات الحقيقية والمسؤولية وهي المهمة التي كان من المفروض أن تقوم بها هيئة الإنصاف والمصالحة المحدثة سنة 2004.
لقد شغل إدريس البصري، ولسنوات طويلة، ابتداء من فجر السبعينيات ولغاية نهاية التسعينيات مناصب أمنية وحكومية، إذ بدأ مشواره الوظيفي بالإشراف على الاستعلامات العامة ثم كاتبا للدولة في الداخلية منذ 25 أبريل 1974، ثم عين وزيرا للداخلية منذ 27 أكتوبر 1977 واحتفظ بهذا المنصب إلى حدود 9 نونبر 1999. علما أن الإدارة العامة للأمن الوطني وإدارة مراقبة التراب الوطني (الديسطي) ظلت تابعة له بحكم السلط القانونية والفعلية التي تدرجت بالتوسع على امتداد رئاسته للداخلية. واعتبارا لهذه الصفة، يعتبره الكثيرون المسؤول الأول، سواء عبر أوامر مباشرة أو غير مباشرة، على العديد من الأفعال والممارسات المرتبطة بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والتجاوزات الكبرى التي عاشتها البلاد منذ 1974 وعقب الاحتجاجات الاجتماعية ومظاهرات الغضب الشعبي لسنوات 1981 و 1984 و 1990 وما أعقبها من اعتقالات، اختطافات، اختفاءات، محاكمات تعسفية وقتل، وهي كلها أمور تابعها إدريس البصري عن كثب لحظة بلحظة. وقد نتج عن تلك الأوامر أضرارا بليغة مست الآلاف من الضحايا وذويهم، أضرارا مادية ومعنوية ارتبط جلها بالحق في الحياة (وفيات بسبب الاغتيال أو التعذيب أو الاحتجاز في ظروف غير آدمية) والحق في الأمان الشخصي (التعذيب المادي والمعنوي وانعكاساته المختلفة) والحق في الحرية (اعتقالات غير مشروعة وما ترتب عنها من أحكام جائرة مستندة على محاضر مزورة ومفبركة) والحق في بناء أسرة (تشريد عائلات والنيل من مستقبل أفرادها) والمس بالكرامة الإنسانية (الإهانات والدوس على الصفة الإنسانية وهتك الأعراض...).
وتم رصد الكثير من هذه الانتهاكات من طرف الجمعيات الحقوقية الوطنية والمنظمات والهيئات الحقوقية والإنسانية الدولية. كما أكدتها تصريحات وشكايات وشهادات الضحايا وذويهم ودونتها كتب ومؤلفات أنجزها جملة من المعتقلين السابقين الناجين من جحيم المعتقلات السرية، وكذلك تصريحات بعض المسؤولين الأمنية وبعض العاملين في الأجهزة الأمنية العلنية منها والسرية.
ومما يشير بقوة إلى مسؤولية إدريس البصري، كمسؤول حكومي وأقرب الوزراء للملك، أن هناك وقائع وأفعال مقترفة يجرمها القانون الداخلي والدولي، خطط لها بعزم وإرادة ومورست خلال الفترة التاريخية المعينة. ومنها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وتجاوزات كبرى وقعت فعلا خلال فترات معروفة وأماكن محددة وظروف معلومة. كما أن مرتكبيها لهم مناصب حساسة بالدولة وينتمون لأجهزة مخابراتية أو أمنية وإدارات وأقسام ومصالح كانت كلها تحت إمرة إدريس البصري مباشرة.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى ظل ضحايا هذه الأفعال معروفين ومعلومين بأسمائهم وصفاتهم ومواقعهم الاجتماعية.
كما تتأكد مسؤولية إدريس البصري، الوزير المستدام في ظل 11 حكومة، عبر اتهامه من طرف أكثر من جهة بارتباطه بإضرام النار في أرشيفات الديسطي، علما أنه، في آخر المطاف، يعتبر نتاجا لثقافة سلطوية استبدادية سادت بالمغرب على امتداد العقود الثلاثة (ربع قرن) التي تحمل فيها المسؤولية، وكان خلالها صاحب الحل والعقد في الدوائر الأمنية وهذا مؤشر آخر على ارتباط اسمه بالعديد من الانتهاكات الجسيمة والتجاوزات والخروقات الكبرى منذ سنة 1974 على الأقل.


نتهم إدريس البصري...


اتهم الكثيرون إدريس البصري، كوزير للداخلية وكقائم على أمور مديرية الأمن الوطني ومديرية مراقبة التراب (الديسطي)، من 25 أبريل 1974 إلى 6 نونبر 1999، بالأفعال الإجرامية التالية:
- جرائم القتل والقتل العمد مع سبق الإصرار.
- استعمال وسائل التعذيب والقيام بأعمال وحشية في حق جملة من المواطنين المغاربة.
- الأمر بممارسة العنف الناتج عنه بتر عضو أو العجز الدائم والعنف المرتكب عمدا.
- جرائم الاختطاف والاعتقال التعسفي.
- جرائم التهديد بارتكاب أفعال إجرامية ضد الأشخاص والأموال.
- جرائم عدم التدخل للحيلولة دون وقوع فعل يهدد السلامة البدنية وجرائم الامتناع عن تقديم المساعدة لشخص في خطر وجرائم الرفض والإهمال الصادرة عن موظفين تابعين لوزارة الداخلية أو الأجهزة الأمنية.
- جرائم الاعتداء على حرمة المنازل واقتحام المساكن والإقامات بدون وجه حق وقانون.
- جرائم التزوير والتلفيق للنيل من بعض المواطنين (محاضر مزورة ومفبركة وتهم ملفقة وحجج مختلقة).
- جرائم استغلال النفوذ والتبديد والغذر.
وجاء في آخر تقرير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش": "خرجت هيئة الإنصاف والمصالحة بعد سنتين كاملتين من العمل بخلاصة مفادها أن الفترة، الممتدة من استقلال المغرب حتى نهاية عهد الملك الحسن الثاني، شهدت قتل 592 مواطنا مغربيا معتمدة على شهادة 16861 شخصا والذين ساعدوها في العثور على 85 قبرا سريا [...] وظهرت شخصيات مثيرة للجدل كانت مسؤولة على أغلب الانتهاكات التي عرفها المغرب، ومن بينها، وزير الداخلية السابق، إدريس البصري".
ويظل السؤال: إذا كان إدريس البصري متورطا في مجال الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والتجاوزات الكبرى فهل هناك دليل؟ وهل يمكن تصور صك الاتهام بهذا الخصوص؟
ومن المعلوم أن كل من المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف وسعيد السرغوشني قد أودعا شكاية ضد إدريس البصري أمام القضاء إلا أنها ظلت جامدة إلى حد الآن.


الاختفاء القسري ومجهولي المصير


الاختفاء القسري، من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، والهدف منه، أولا وقبل كل شيء، هو حرمان ضحاياه من أية حماية قانونية لضمان استفراد الجلادين بهم. ويعتبر الاختفاء القسري انتهاك جسيم حصل كثيرا في عهد البصري (1974 – 1999)، إذ لجأت إليه الأجهزة الأمنية لمواجهة المعارضين وكل مخالف للرأي الرسمي، علما أن هذا الانتهاك مس كذلك العديد من الأشخاص لا علاقة لهم بالعمل السياسي أو النقابي أو الجمعوي، وعددهم الحقيقي لا زال مجهولا لحد الآن.
كانت لجنة التحكيم (التابعة للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان) قد أصدرت أرقاما تافهة بهذا الخصوص، إذ أعلنت على 112 حالة سنة 2000، وقيل إن هذا الرقم يتضمن حالات الاختطاف والاختفاء القسري بالأقاليم الصحراوية وحسب لجنة التنسيق لمجموعة الضحايا الصحراويين، فإن هذه الأرقام لم تأخذ بعين الاعتبار الرقم المعلن عنه، بخصوص الصحراويين فقط من طرف منظمة العفو الدولية التي كشفت عن 488 مختف صحراوي مع التأكيد أن عددهم يفوق هذا الرقم بكثير.
وفي نظر النشطاء الحقوقيين، لم تقم لجنة التحكيم إلا بانتقاء بعض الحالات القليلة جدا والتي لا تتماشى مع عدد المتوفين ومجهولي المصير والمختفين الذين يعدون بالآلاف ما دامت أنها لم تقف إلا على 121 حالة فقط. هذا في وقت تمكنت الجمعيات الوطنية لحقوق الإنسان وبعض المنظمات الدولية وفريق العمل التابع للأمم المتحدة المكلف بالاختفاء القسري من الوقوف على حالات يفوق عددها كثيرا ما أعلنت عنه لجنة التحكيم، لذلك اعتبر النشطاء الحقوقيون حصيلة هذه اللجنة حصيلة مفبركة لطمس الحقائق والتستر على مسؤولية الدولة ومع ذلك وعلى علتها، كانت كافية لتوضيح مسؤولية الدولة والكشف عن دور إدريس البصري فيها خلال توليه لمسؤولية وزارة الداخلية. فلجنة التحكيم في واقع الأمر، لم تقر إلا بـ 65 حالة (متوفون ومختفون) 44 منهم ظلوا مجهولي المصير و 12 هويتهم مجهولة، أي ما مجموعة 121.
وحسب هيئة الإنصاف والمصالحة، قدر تقريرها النهائي حالات الاختفاء القسري بـ 808 منها 66 حالة لم تتمكن من التوصل بصددها إلى الحقيقة، علما أنها كلها مرتبطة بما أصطلح عليه بـ "الجريمة السياسية أو جريمة الرأي" دون الأخذ بعين الاعتبار، طبعا، حالات الاختفاء القسري التي لا تمت بصلة بالمجال السياسي أو النقابي أو الجمعوي. كما أن الهيئة لم تتخذ قرارا إيجابيا إلا بخصوص 58 في المائة من الملفات المودعة داخل الأجل وظلت 42 في المائة المتبقية لم يعرف بعد طبيعتها ومضمون الطلبات المرتبطة بها، لاسيما إن تضمنت حالات الاختفاء القسري التي لا تمت بصلة بمجال السياسة والرأي؟ وكم تمثل هذه العينة ضمن الطلبات المودعة الآجال أو خارجه؟
فالهيئة أصدرت قرارات غير إيجابية بخصوص 6894 طلبا منها 4943 بعدم الاختصاص (72 في المائة) و 1783 بالرفض وعدم القبول (26 في المائة) و 168 بالحفظ وصرف النظر.
أما بخصوص مجهولي المصير، فقد حدد تقرير الهيئة النهائي عدد مجهولي المصير في 325 حالة من ضمنها 275 حالة (أي أكثر من 84 في المائة) خلال مرحلة ما بين 1974 و 1999، في حين أن المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف والجمعية المغربية لحقوق الإنسان أصدر لوائح تضم أكثر من 300 اسم ومعلوم ضمن مجهولي المصير بخصوص تلك الفترة ولم تهتم، لا هيئة الإنصاف والمصالحة ولا المنظمات الحقوقية المغربية، بمجهولي المصير الذين لا تربطهم أي صلة بالمجال السياسي أو بالمجال النقابي والجمعوي والثقافي. وهناك أكثر من عائلة فقدت أحد أفرادها في فترة ما بين 1974 و 1999 تورط في ملف المخدرات أو التهريب أو ملفات الحق العام أو كان على علاقة عابرة بقضايا كبرى وظل مصيره مجهولا.
ولا يمكن، بأي شكل من الأشكال، الجزم في مثل هذه الحالات باعتبار أنها ما زالت لم تستأثر بعد باهتمام النشطاء الحقوقيين ما دامت صبغة القمع السياسي، دون سواه، هي التي لازالت طاغية في هذا المجال إلى حد الآن.
كما أنه انطلاقا مما أشارت إليه وسائل الإعلام المكتوبة الوطنية (على وجه الخصوص، جريدة الأسبوع الصحفي والصحافة اليسارية ثم الصحافة المستقلة بعد بروزها)، وما توصلت إليه بعض الجمعيات الحقوقية والاجتماعية الوطنية وما ورد في جملة من التقارير الصادرة عن هيئات حقوقية ومنظمات إنسانية أجنبية، يبدو أن عدد ضحايا الاختفاء القسري، خارج نطاق السياسة والرأي، تجاوز 450 حالة خلال فترة ما بين 1974 و 1999 علما أن عائلات الضحايا لم تقم بما يساعد على إبراز مثل هذه الاختفاءات والتي نتجت عنها عدة وفيات في مخافر الشرطة والدرك الملكي والقوات المساعدة وفي المعتقلات.
لكن، هل يمكن أن نتصور أن الدولة تجهل عدد المختفين وهوية من لقى حتفه منهم والظروف التي تمت فيها ومكان دفنه؟ هل يمكن أن نتصور أن الدولة لا تعلم عدد المختفين الذين ما زالوا على قيد الحياة ومكان احتجازهم وظروف اختفائهم؟


تواطؤ القضاء في عهد البصري


قد يتساءل المرء بخصوص موقف القضاء المغربي إزاء كل تلك الانتهاكات والتجاوزات الكبرى والأفعال الإجرامية المقترفة من طرف أناس كانوا يعملون تحت إمرة وزير الداخلية والرئيس الفعلي للأجهزة الأمنية التابعة له، علما أنها تعتبر كلها أفعال يجرمها القانون المغربي، على علته آنذاك، وكافة المعاهدات الدولية التي صادق المغرب على أغلبية بنوذها.
فمن الأكيد أنه كان من المفروض أن يتحمل الجهاز القضائي المغربي مسؤوليته، بما في ذلك مدعو النيابة العامة وقضاة التحقيق وقضاة الحكم. لكن مع الأسف الشديد، يبدو أن قضاءنا، على امتداد عهد إدريس البصري، كرس كل تلك الانتهاكات ودعمها وتستر على التجاوزات الكبرى المقترفة من طرف مسؤولين أمنيين أو أعوانهم. ولم يسبق أن سمعنا، على امتداد فترة ما بين 1974 و 1996، عن أي رد فعل من طرف القضاء المغربي إزاء أي انتهاك جسيم لحقوق الإنسان أو إحدى التجاوزات الكبرى أو أي فعل إجرامي، لا من حيث أخذ المبادرة في فتح الملفات أو الأمر بالتحقيق بخصوص نازلة ولا من حيث تقرير المتابعات الجنائية، ناهيك عن الوصول إلى إصدار الأحكام وإدانة المسؤولين المباشرين عنها.
ويرى الكثير من النشطاء الحقوقيين والمحللين السياسيين أن الجهاز القضائي، خلال فترة إدريس البصري، لم يتحمل مسؤوليته ولم يقو على ممارسة وتفعيل استقلاليته وتكريس نزاهته. وهذا رغم علمه، علم اليقين، بوقوع تجاوزات سافرة ورغم معرفته بوقوع جملة من الأفعال الجرمية الصادرة عن مسؤولين عاملين تحت إمرة وزير الداخلية، بل أكثر من هذا، توصل القضاء بالعديد من الشكايات والبيانات والبلاغات والتقارير، سواء من طرف الضحايا أو ذويهم أو من طرف جهات أخرى كالهيئات والمنظمات والجمعيات الحقوقية، ولكنه لم يحرك ساكنا ولو على سبيل در الرماد على العيون.
ولم يعد يخفى على أحد الآن أن عدم استقلالية القضاء آنذاك وخضوعه للضغوط السياسية ولتعليمات جهات نافذة جعل منه آلية من آليات دعم السياسة القمعية المعتمدة وتكريس الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وبذلك يكون قد زكاها وقام بدور كبير في التستر عليها. وبذلك شكل عنصرا أساسيا من عناصر تكريس الإفلات من العقاب.
وفي واقع الأمر كان الجهاز القضائي، في عهد إدريس البصري، مشاركا في ما جرى من انتهاكات جسيمة وتجاوزات كبرى.


هيئة الإنصاف والمصالحة وإدريس البصري


من المعلوم أن هيئة الإنصاف والمصالحة استجوبت سرا عددا من المسؤولين الأمنيين سابقا، منهم من اضطلع بمسؤولية أمنية كبيرة، شاركوا، بشكل أو بآخر، في العديد من الأحداث جرت ما بين 1956 و 1999، إلا أنها لم يسبق لها أن فكرت في استجواب إدريس البصري بالرغم من أنه كان المسؤول الأمني الأول من سنة 1974 إلى حدود خلعه في نهاية التسعينيات، إذ تولى لسنوات طويلة وزارة الداخلية وسهر على مديرية الأمن الوطني ومديرية مراقبة التراب (الديسطي).
وفي هذا الصدد، صرح إدريس بنزكري، رئيس الهيئة، أن هذه الأخيرة لم تر ضرورة استجواب وزير الداخلية السابق والاستماع إليه كما فعلت مع بعض المسؤولين الأمنيين، وذلك لأنها – حسب تصريحه – جمعت الكثير من المعطيات والدلائل حول كل ما جرى من انتهاكات وتجاوزات في عهده وقبله.


توضيح لابد منه
بخصوص عمل هيئة الإنصاف والمصالحة


من الأكيد أن العمل الذي قامت به هيئة الإنصاف والمصالحة جبار ويشكل لبنة من لبنات إرساء أسس تكريس سيرورة التغيير والشوق لغد أفضل وأنه تطلب مجهودات كبيرة إذ تلقت الهيئة أكثر من 16000 ملف واستمعت إلى أكثر من 22 ألف شهادة تمكنت من خلالها من تحديد أكثر 16 ألف ضحية من ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والتجاوزات الكبرى واستفاد ما يفوق 3700 شخص من تعويضات مادية بلغت مليار درهم، وهذا في انتظار تفعيل توصيات تقريرها النهائي.
كما أنه حسب تصريحات جملة من أعضائها، كان حفارو القبور، الرسميون منهم أو الذين مارسوا الحرفة بالصدفة وتبعا لأوامر، من أكبر من زودها بمعلومات دقيقة ووافية بأماكن دفن بعض ضحايا سنوات الجمر والرصاص.
كما صرحوا أن الذين توفوا إثر إصابتهم بالرصاص كانوا يتابعون ما يجري من أبواب بيوتهم أو من نوافذها، وغالبيتهم أطفال. وهذا كاف كمؤشر من مؤشرات مسؤولية إدريس البصري فيما جرى وحدث، بوصفه قائم على الأمن وعلى إدارة التراب بالمغرب من سنة 1974 و 1999.
كما أنه وجبت الإشارة إلى أن الأرقام الواردة في التقرير النهائي لهيئة الإنصاف والمصالحة تهم نطاقا خاصا ومحددا سلفا ولا تعكس مجموع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، التي اقترفت منذ سنة 1956 إلى سنة 1999، وإنما تعكس بالأساس تلك المرتبطة بالمجال السياسي والمطالبة بالتغيير، وكذلك بالطلبات المقدمة بهذا الخصوص.
وبالتالي تظل النتائج المتوصل إليها نسبية، لاسيما وأن الهيئة ارتكزت بالأساس على الطلبات وبعض الشهادات ولم تنطلق من أرشيفات الأجهزة الأمنية ومساءلة القائمين عليها. لذا فلم يكن في إمكانها إلا الكشف عن جزء يختلف الكثير في تقييمه عن حقيقة سنوات الجمر والرصاص وليس عن حقيقة ما جرى. هذا إضافة إلى كون مهمتها قد اقتصرت بدءا على ما ارتبط بالمجال السياسي ولم تهتم بالمجالات الأخرى التي اقترفت فيها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، لأنه هناك حالات كثيرة بهذا الخصوص تعلقت بمواطنين ومواطنات لا علاقة لهم، لا من قريب ولا من بعيد، بالسياسة، سواء في الحواضر أو البوادي وهي حالات كثيرة، يتحمل مسؤوليتها، إدريس البصري، الرجل الثاني بالمغرب فيما بين 1974 و 1999 والقائم على إدارة التراب الوطني والأمن الوطني ومراقبة التراب الوطني.
وقد رأى البعض أن الهيئة عملت، من حيث لا تدري، على تلميع صورة النظام في مرحلة حرجة، بل ذهب البعض إلى الاعتقاد بأنها استخدمت كذلك لتصفية بعض الحسابات، لذلك كانت حصيلتها في الكشف عن الحقيقية نسبية وغير كاملة وشاملة.
علما أنه لم يكن من اختصاصها لا المتابعة القضائية ولا المساءلة ولا تحديد المسؤوليات الفردية. وبالرغم من ذلك، شكلت هيئة الإنصاف والمصالحة خطرا أكيدا وملموسا على جملة من الأوساط انتفعت في العهد القديم إن على مستوى التسيب أو على مستوى الاستهتار بالقانون أو الذين استفادوا من الفساد بكل تجلياته.
وعموما، كان من المعروف منذ البداية، أن الصلاحيات المخولة لهيئة الإنصاف والمصالحة لن تمكنها، بأي وجه من الوجوه، من التوصل إلى كشف جميع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والتجاوزات الكبرى والأفعال الإجرامية التي عرفها المغرب منذ الاستقلال أو الكشف عن أسماء وصفات المسؤولين عنها أو المخططين لها والمحرضين عليها والآمرين بها والمنفذين لها أو من فضح كل الظروف التي تمت فيها وتحديد وتقييم عواقبها وانعكاساتها.


الاختطاف


من المؤكد أن هيئة الإنصاف والمصالحة لم تقف على جميع حالات الاختطاف المقترفة في عهد البصري، ما بين سنتي 1974 و 1999، اعتبارا للمهمة التي حددت لها سلفا وللصلاحيات التي منحت لها.
ولو انطلقت من أرشيفات مديرية مراقبة التراب الوطني (الديسطي)، لوقفت على حالات من الاختطاف لا تمت بصلة بالمجال السياسي والنقابي والجمعوي، علما أن جزءا كبيرا من تلك الأرشيفات تم إتلافها عمدا وإحراق بعضها المتبقى بفعل فاعل. وقد وجهت بعض الجهات تهمة إتلافها إلى إدريس البصري لإقبار الحقائق حين كثر الكلام على الكشف عن الحقيقة ومساءلة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة التي عاشها المغرب منذ حصوله على الاستقلال، لاسيما الفترة الفاصلة ما بين 1974 و 1999 والتي تهم وزير الداخلية المخلوع ومن شأنها توريطه في عدة انتهاكات جسيمة.
كما تأكد، من جهة أخرى، أن هناك حالات اختطاف اقترفها عناصر من مديرية مراقبة التراب الوطني (الديسطي) لم تقف عليها هيئة الإنصاف والمصالحة نذكر منها حالتين على سبيل الاستئناس فقط. فهناك حالة امحمد سرحان، الرئيس السابق لمكتب وكالة المغرب العربي للأنباء بروما (إيطاليا) والمختطف في فجر التسعينيات، وحالة المحامي الصالحي المدني بهيئة المحامين بأكادير. علما أن هيئة الإنصاف والمصالحة لم تنظر إلا في الطلبات المعروضة عليها ولم تهتم بكل حالات الاختطاف، وبالتالي فإن الأرقام المعلن عنها في تقريرها النهائي تظل أرقاما جزئية نظرا لارتباطها بالطلبات المقدمة فقط ولم تنطلق من أجل بلورتها مما جرى فعلا خلال سنوات الجمر والرصاص اعتمادا على وثائق رسمية ومساءلة القائمين على الأمور الأمنيين وأرشيفات الإدارات والمصالح والأقسام التي كانوا يديرونها.
وبالتالي، تظل تلك الأرقام محدودة ولا تعكس إلا جزء من حقيقة الاختطافات المقترفة فيما بين 1956 إلى 1999 (لاسيما عهد إدريس البصري، الفترة التي تهمنا).
فالهيئة اقتصرت على الطلبات المعروضة عليها بهذا الخصوص ولم تكن مطالبة أصلا بالنظر في الاختطافات التي لا تمت بصلة بالسياسة وبالرأي أو بالنبش بخصوصها، كما أنه لا يمكن الجزم بأن كل ضحايا الاختطاف أودعوا ملفاتهم لذى الهيئة.
للإشارة، وبالرجوع إلى ما نشر بهذا الخصوص بوسائل الإعلام المكتوبة الوطنية وما أشارت إليه بعض أدبيات جملة من الهيئات الحقوقية الخارجية، تبدو أن هناك حالات اختطاف غير مرتبطة بالمجال السياسي حدثت فيما بين 1974 و 1999 إذ يكفي الرجوع إلى الصحف والجرائد المستقلة فيما بين 1999 و 2003 للوقوف على العديد من الحالات.


عصر إدريس البصري: انتهاكات جسيمة وتجاوزات بالجملة


عرف "عصر" إدريس البصري العديد من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والتجاوزات الكبرى التي يعاقب عليه القانون. وبالرغم من أنه لا نحيد بجميع تلك الانتهاكات والتجاوزات، إن كميا أو نوعيا، أو على مستوى الوقائع والنوازل وأسماء أعوان إدريس البصري والعاملين تحت إمرته الذي كلفوا باقترافها أو المساهمة في التخطيط لها والمشاركة فيها وتحديد أسماء وهوية كل ضحايا تلك الفترة بالتواريخ والأمكنة والظروف المصاحبة لارتكاب تلك الانتهاكات. بالرغم من كل هذا، يمكن الاقتراب من صورة تعكس قدرا كبيرا مما وقع فعلا، إن نحن حددنا طبيعة ونهج إدريس البصري في التعاطي مع المسألة الأمنية على امتداد فترة اضطلاعه بالمسؤولية.
إعتمد الوزير المخلوع، إدريس البصري، سياسة أمنية ترتكز على "أطروحة" الضربة الأمنية الاستباقية لأنه كان يعتبر المغرب كمزرعة ينبغي أن يستأصل من ترابها كل الأعشاب التي يراها "ضارة" في كل موسم، ولو أدى الأمر إلى التضحية بأبرياء ما دام أغلب المغاربة متهمين مفترضين في نظره. إنه كان يعمل بالفكرة القائلة: كل مغربي متهم إلى أن يثبت بالدليل براءته وليس العكس كما هو متعامل به في الدول المتحضرة، أي كل متهم بريء حتى تثبت إدانته. ففي نظره كان العديد من المغاربة بمثابة "أعشاب ضارة وطفيلية" وجب القضاء عليها بمختلف الأساليب وفي أسرع وقت وبأي ثمن.
كان إدريس البصري يمارس مهامه انطلاقا من قناعة جواز "القضاء على ثلثي الأمة لاستصلاح الثلث" المتبقي.
وبالتالي كان من الطبيعي أن تتسع حملات الاعتقالات التعسفية والاختطافات والاختفاءات القسرية والوفيات بالمعتقلات السرية والعلنية وبمخافر الشرطة والدرك الملكي واعتماد التعذيب والتنكيل والدوس على الصفة الإنسانية في عهده فيما بين 1974 و 1999.
وكان من الطبيعي في عهده أن نعاين التفنن في اختراع مبررات الاعتقال والبطش والاعتماد على محاضر مفبركة لتمكين القضاء من الاعتماد عليها دون سواها لتوزيع الأحكام القاسية والجائرة بالجملة على الأضناء.
وهذا ما تأكد الآن بجلاء وبشكل لم يعد يخامر المرء أدنى شك بصدده.
إن النهج الذي اعتمده إدريس البصري في تدبير المسألة الأمنية انطلق إذن من منظر قمعي استبدادي صرف للتصدي لأي معارض بهدف إبعاده عن الفعل السياسي بطريقة ممنهجة باعتماد الإقصاء والتصفيات واستعمال مختلف أساليب القمع والتنكيل والاعتقال التعسفي والاختطاف. وهذا في ظل منظومة سلطوية استبدادية لتدبير الحكم. إن إدريس البصري أراد مراقبة النخب بالمغرب عن طريق الاعتقال من أجل إبعادها من الركح السياسي.
كان إدريس البصري مسكونا بفكرة واحدة لا ثاني لها، محاربة الخصوم السياسيين بمختلف الوسائل وبأي ثمن لردعهم قبل أن يبادروا إلى أي فعل. وربما هذه الخاصية هي التي تفسر كثرة الضحايا في عهده والتي عددها البعض بالمئات والكثيرون أحصاها بالآلاف. لقد برع إدريس البصري في ترهيب وترغيب المعارضين والتنكيل بهم على امتداد السبعينيات والثمانينيات، وبذلك كانت فترة اضطلاعه بمهمته القمعية سوداء بالنسبة للمغاربة الذي فقدوا حياتهم من أجل التغيير في عهده بفعل اعتماده سياسة الضرب بقوة على عنق كل من يراه خصما.


خلاصة القول
كان إدريس البصري في عهد الملك الراحل الحسن الثاني أقوى من الوزير الأول وكان يتحكم في الولاة والعمال والقياد وعمداء الشرطة، وبجرة قلم يعتقل من يريد ومن يراه مشاغبا.
ويعتقد الكثيرون أنه كان أحد أسباب تعاسة العديد من المغاربة. ففي عهده لم يكن أغلب المغاربة يفتخرون بنظام بلدهم بين شعوب العالم، بل أن الصورة الغالبة كانت تعكس أجهزة أمنية مشوهة السمعة وقذرة الأيادي لأنها كانت ملطخة بدماء الآلاف من أبناء الوطن وكانت تلجأ لأساليب تتجاوزة القانون وتكرس الدوس عليه، بل كانت تعتبر نفسها فوق القانون، وقد أكد ممارسات لا تعد ولا تحصى على واقع الحال هذا.
ويعتقد البعض أن مسؤولية إدريس البصري، فيما جرى من انتهاكات جسيمة وتجاوزات كبرى، تظل مشروطة بالظروف العامة السائدة وبطبيعة علاقته مع الملك. في حين يعتبر البعض الآخر أنه من وجهة القانون الجاري به العمل، وعلى علته، يظل الوزير المخلوع مسؤولا مباشرا على اقتراف جملة من الأفعال يجرمها القانون بامتياز، وبالتالي وجبت محاسبته على هذا الأساس، لاسيما وأن الكثير منها ترتبط بالحق في الحياة وهذا أمر يستوجب المساءلة. ويشير أصحاب هذا الرأي، أنه مهما كانت الظروف التي حكمت تصرفات إدريس البصري كمسوؤل، فإنه كان من المفروض أن يمثل القانون. وفي هذا الصدد، تساءل بعض أصحاب هذا الرأي: "كيف يعقل إدانة دركيين بتهمة تسلمهم رشوة بقيمة 10 دراهم في الفترة ما بين 1974 و 1999، وعدم محاكمة إدريس البصري الذي ارتبط اسمه بجرائم انتهاك الحق في الحياة كانت سببا في تشريد عائلات كما ارتبط هو وعائلته بجملة من الفضائح المالية التي انكشفت خيوطها الآن، في انتظار كشف ما هو أدهى؟ أم أن إدريس البصري وأمثاله هم فوق القانون ومن طينة المغاربة الذين يطبقون القانون على الآخرين ولا يطبق عليهم؟
وعموما، شكلت الانتهاكات الجسيمة جرحا سيظل مفتوحا إن لم يتم الكشف على أكبر جزء من الحقيقة رغم السعي لتعويض الكثير من ضحاياها، كما ستظل مسؤولية إدريس البصري قائمة بخصوص قتلى سنوات الجمر والرصاص فيما بين 1974 وبداية التسعينيات والذين لم يتم الكشف إلا عن بعضهم باعتبار أن كل المؤشرات تفيد أنهم يعدون بالآلاف أم أن هذه الانتهاكات الجسيمة والتجاوزات الكبرى التي يقف وراءهل إدريس البصري تظل من أسرار الدولة وبالتالي وجب الاستمرار في التستر عليها؟
وهل استدعاء إدريس البصري من طرف القاضي باتريك راماييل، المكلف بالتحقيق في قضية اختطاف الهدي بن بركة من المؤشرات التي قد توحي بإمكانية مساءلته؟



حوار مع أحمد الصبار / منتدى الانصاف و الحقيقة


- ما هي حصيلة القتلى التي أفرزتها مرحلة البصري؟
+ خلال تقلد إدريس البصري للمسؤولية على رأس وزارة الداخلية، أصبح بموجبها يتحمل مسؤوليته السياسية عما وقع من قمع وحشي شديد نتجت عنه انتهاكات جسيمة وصارخة، من جراء التدخلات الأمنية خاصة في الانتفاضات الجماهيرية الكبرى التي عرفتها العديد من المناطق الحضرية في مطلع الثمانينيات وتحديدا من سنة 1984 كانتفاضة فاس وما عرفته من تدخلات عنيفة وسافرة، لهذا فإن البصري يتحمل سياسيا تبعات هذه الحملات القمعية بشكل واضح لا غبار عليه.
هيئة الإنصاف والمصالحة توصلت من خلال أبحاثها إلى عدد ممن اعتبروا ضحايا الانتفاضات الجماهيرية الكبرى وكان هناك عدد قليل أعلن عنه فيما يتعلق بضحايا سنة 1965 بالدار البيضاء، وعددا لا يتعدى 87 في مقبرة جماعية بمدينة الدار البيضاء التي تم العثور عليها بثكنة الوقاية المدنية، كما تم الوقوف على مقبرة بمدينة فاس لم تحدد فيها هوية الذين سقطوا ضحية الانتفاضة وهذا العدد يقل في تقديرنا بشكل كبير عن الرقم الحقيقي المفترض عن ضحايا القتل خارج نطاق القضاء في هذه الانتفاضات التي تدخلت فيها قوات متعددة ومختلفة من جيش ودرك وشرطة، طبعا لا يمكن الوقوف بشكل قاطع وجازم على الحصيلة النهائية، لكن يمكن القول إن تقديرات المنظمات الحقوقية وخاصة المنتدى المغربي للإنصاف والحقيقة على أن الأرقام المعلن عنها لحد الآن لا تشكل ولو نصف اللوائح التي نتوفر عليها فيما يتعلق بضحايا الانتفاضات الجماهيرية التي اندلعت لما كان إدريس البصري وزيرا للداخلية.


- هل يتوفر المنتدى على أرقام حقيقية لعدد قتلى الانتفاضات الجماهيرية لسنوات 1981/1984/1990؟
+فيما يتعلق بانتفاضة 1990 وانتفاضة 20 يونيو 1981 نتوفر على عدد من اللوائح تفوق بكثير ما أعلن عنه من طرف هيئة الإنصاف والمصالحة، إلا أن الصعوبات تطبع انتفاضة 23 مارس 1965 حيث أن طول المدة لم يمكننا من الوقوف على هذه الملفات وعدد الضحايا المرتبطة بها، والواقع أن هيئة الإنصاف والمصالحة التي أنهت عملها لما يزيد عن خمسة أشهر فمن الصعب بما كان أن نقدم تقييما موضوعيا للنتائج المعلنة من طرفها فيما يتعلق بالحقيقة.
يعلم الجميع أن الهيئة أعلنت توصلها لحقائق بشأن مصير 742 حالة وأن هناك حالات عالقة قدرتها الهيئة بـ 66 حالة، لحد الآن لم تنشر أسماء المعنيين بالأمر سواء اندرجوا في القوائم التي توصلوا بحقائق حول مصيرهم أو باللائحة العالقة التي لا زال البحث جاريا بخصوصها، كما أن عدم نشر الأسماء لا يسمح لنا باختبار هذه اللوائح حيث يمكن أن تكون هناك أسماء مكررة وأخرى حركية، من ذلك يمكن القول أن نشر هذه الأسماء يسمح لنا باختبار لوائح الهيئة مقارنة باللوائح التي نتوفر عليها بالمنتدى والتي يتوفر عليها شركاؤنا في الحركة الحقوقية وأيضا المنظمات الدولية المهتمة بأوضاع حقوق الإنسان ببلادنا.


- هناك رقم يفوق 5000 قتيل، حسب مصادرنا، من ضحايا إدريس البصري؟
+ هذا الرقم في الحقيقة غير مخيف وفي تقديري أنه رقم غير مبالغ فيه، ربما من خلال المعطيات المتوفرة يبدو أقرب إلى الحقيقة، لماذا؟ لسبب بسيط، فنحن في المنتدى المغربي للإنصاف والحقيقة، إلى حين عقد جلسات الاستماع العمومية، بدأنا نتوصل بطلبات جديدة، مما يفيد أن عدد من الضحايا غير المباشرين الذين ركنوا إلى الصمت لسنوات طوال ولم يبادروا إلى تقديم طلباتهم سواء أمام لجان التحكيم المستقلة أو أمام هيئة الإنصاف لأسباب متعددة، قد يكون من بين هاته الأسباب، عدم الثقة في مصداقية مسلسل معالجة الانتهاكات الجسيمة، ربما لأن جلسات الاستماع العمومية خلفت أثرا كبيرا لدى الرأي العام الوطني وسمحت للعديد ممن كانوا يترددون في طرق أبواب المنظمات الحقوقية أن يبادروا إلى تقديم طلباتهم طلبا للمؤازرة، وأعتقد أنه باستقبالنا للوائح جديدة وطلبات جديدة تتعلق بضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بدءا من دار بريشة إلى أحداث 1984 يرجح كفة العدد المشار إليه من طرفكم على أنه أقرب إلى الحقيقة بنسبة كبيرا جدا.


- صرحت الهيئة بعدد الملفات التي توصلت بها، هل لديكم فكرة عن عدد الملفات التي لم يبث في شأنها إما لوصولها خارج الأجل المحدد أو لأمور أخرى؟
+ حسب ما نتوفر عليه من معلومات، هناك حوالي 30 ألف طلب وضعت خارج الآجال وهي حسب معلوماتنا لم تتم معالجتها إطلاقا، طبعا فهي لا تتعلق جميعها بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان قد يكون من بينها حالات لا تدخل في اختصاص الهيئة مطلقا، في اعتقادي أن الهيئة مطالبة بالتعاطي مع الملفات التي وضعت خارج الآجال على اعتبار أن إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة لم تواكبه دعاية إعلامية في المستوى المطلوب أو الذي يليق بمستواها، تسمح لكافة المغاربة بالتعرف على الهيئة والاختصاصات الممنوحة لها بما في ذلك البث في طلبات التعويض، ناهيك على أن عددا من ضحايا الانتهاكات الجسيمة ببلادنا يوجدون في مناطق نائية قد لا تصل إليها التغطية التلفزية أو الصحف الوطنية كما أنهم لم يبلغوا في حينه باختصاصات الهيئة في ذات الموضوع وبالآجال المنصوص عليها في النظام الأساسي وفي التوصيات ومن غير المعقول أن يتم التغاضي عن هاته طلبات. هناك طلبات وضعت خارج الآجال لأسباب متعددة منعت أصحابها من تقديمها إما لتواجدهم خارج أرض الوطن أو ربما بأرض المنفى ولم يتمكنوا من مواكبة ما يجري بالداخل أو لم يعلموا بالآجال المتعلقة بطلبات التعويض ومن المجحف ألا يتم التعاطي مع هذه الطلبات، وقد سبق لنا في المنتدى أن طالبنا بالتعاطي مع هذه الطلبات التي وردت خارج الآجال المحددة.


- صرحتم بأن رقم 5000 قتيل من ضحايا الانتهاكات غير بعيد عن الحقيقة، هل احتسبتم ضمنها جملة ضحايا مخافر الأمن والدرك الملكي ممن قتلوا خارج القضايا السياسية؟!
+ من خلال التقرير الختامي للهيئة، وهذا أمر مهم جدا، أشارت أن الانتهاكات لم تشمل فقط المعارضين السياسيين بل شملت أيضا المواطنين بمن فيهم الشيوخ والأطفال، خاصة في الانتفاضات الجماهيرية الكبرى وكما يعلم الجميع، أن الآلة القمعية اشتغلت في مناسبات كثيرة بطرق عشوائية مست عددا من المواطنين ربما كانوا مساندين للنظام، أو قد لا يكون لهم أي مشروع مجتمعي أو أي ارتباطات تنظيمية بأي تيار سياسي أو نقابي أو جمعوي وهذه خاصية الانتهاكات التي عرفتها بلادنا. داخل المنتدى نحن نقدر، من خلال دراسة، على أن عدد الضحايا المباشرين أو غير المباشرين منذ فجر الاستقلال إلى حدود سنة 1999 بلغ حوالي 50 ألف.


- ذكرتم بأن لإدريس البصري المسؤولية السياسية حول الانتهاكات الجسيمة بالمغرب، هل هذه المسؤولية شخصية مباشرة أم أنها تدخل في إطار تنفيذ التعليمات؟
+ من المؤكد أن وزير الداخلية المغربي شكل حالة فريدة بالنظر إلى مجموع دول المعمور، فهو وزير الداخلية الأوحد ربما في العالم الذي عمر أكثر من ربع قرن على رأس هذه الوزارة، قبل ذلك كانت له مسؤوليات أمنية حيث كان مسؤولا عن جهاز المحافظة على إدارة التراب الوطني DST ومسؤوليته السياسية لا غبار عليها خاصة وانه المسؤول الأول الذي تقع تحت وصايته القوات الأمنية بمعنى الإدارة العامة للأمن الوطني وجهاز المخابرات المدني والقوات المساعدة وهذه الأجهزة كلها تدخلت في قمع المواطنين المغاربة خلال مختلف المحطات التاريخية ببلادنا، طبعا إدريس البصري، على الرغم من أنه كان يشكل مركز الثقل في السياسة الأمنية بالبلاد، لا يجعل منه المسؤول الوحيد عما وقع بالمغرب، مع العلم أن هناك مسؤوليات متعددة ومختلفة ومتفاوتة، للأسف أن هيئة الإنصاف والمصالحة لم تحدد مسؤولية الأجهزة بدقة، اكتفت فقط بتحديد مسؤولية الدولة بالتطرق إلى مختلف الأجهزة المسؤولة التي كانت مسؤولة عن الانتهاكات التي عرفتها البلاد في هذا الإطار ولا يمكن أن نستثني الجيش أو الدرك ولا قوات الأمن ولا أجهزة المخابرات، طبعا المدنية وأحيانا العسكرية، ولا القضاء المغربي الذي شرعن للقمع عبر أحكام جائرة، في محاكمات غير عادلة ولا نعفي كذلك الذين تعاقبوا على الحكومات منذ مطلع لاستقلال إلى الآن فيما وقع من قمع وغيره من الانتهاكات شملت المعارضين السياسيين بالدرجة الأولى.


- أنتم كحقوقي هل تعتبرون إمكانية محاكمات إدريس البصري قائمة أم لا؟!
+ في تقديري أننا كحقوقيين لا نهتم كثيرا بالاكراهات الموضوعة على الدولة من جهة، لعلمنا أن القضاء المغربي ليس بالمستوى العالي من الكفاءة ومن النزاهة التي تؤهله للتصدي لهذه الانتهاكات، كما نعلم أن مسلسل التسوية هو مسلسل اختير له أن يكون خارج التسوية القضائية ولاعتبارات متعددة نتشبث بمبدإ أن الإفلات من العقاب كان المحفز الرئيسي للاستمرار في الانتهاكات وتواصلها طوال هذه الحقبة الزمنية التي عرفت بين المغاربة بسنوات الجمر والرصاص. في هذا الإطار، عقدنا مؤتمرنا الثاني تحت شعار (من أجل توسيع دائرة الضوء وإعمال العدالة) كما نعتبر أن مساءلة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خطوة جوهرية ومركزية وأساسية لطي ملفات الماضي الأسود على أسس معيارية سليمة، وقد أقدمنا في هذا الإطار على مبادرة تتعلق بفتح تحقيق فيما يخص المقبرة الجماعية التي عثر عليها بثكنة الوقاية المدنية بالبيضاء وهذه الثكنة هي تابعة لوزارة الداخلية وقد طالبنا الوكيل العام بمحكمة الاستئناف عبر رسالتنا التي نشرتها الصحف الوطنية، خاصة وأن السيد الوكيل وقف على جرائم محققة ومطالب باعتباره ضابطا ساميا للشرطة القضائية أن يقوم بفتح تحقيق في الموضوع بشكل تلقائي دون أي طلب، للأسف أنه، رغم توجيهنا للرسالة، لم نتلق أي جواب حولها، مما دفعنا إلى توجيه تذكير في الموضوع ولم نتلق عنه هو الآخر أي جواب مما دفعنا إلى توجيه تذكير في الموضوع بقي دون رد وقد أقدمنا مؤخرا على مراسلة السيد وزير العدل في إطار مقتضيات الفصل 51 من قانون المسطرة الجنائية الذي يجعله مسؤولا عن تنفيذ السياسة العقابية ببلادنا، لحد الآن لم نتلقى منه أي جواب، ونحن الآن في إطار إعداد سؤال شفوي سيطرح على وزير العدل من طرف بعض الإخوة البرلمانيين، كما تجدر الإشارة إلى أننا سهلنا مأمورية السيد الوكيل العام وأعطيناه لوائح كل المسؤولين الذين تقلدوا مهاما محلية بالدار البيضاء في مختلف الإدارات ذات العلاقة بالموضوع سواء بالقضاء أو الشرطة أو الدرك والجيش أو بوزارة الداخلية وكذلك بلائحة ضحايا 20 يونيو 1981، للأسف أنه لم يفتح أي بحث في الموضوع.


- ما هي التهمة التي يمكن أن توجه لإدريس البصري في حالة محاكمته؟!
+ هذا الأمر يتعلق بالنيابة العامة التي تملك سلطة الملائمة والتقدير في تكييف الوقائع المنسوبة إلى إدريس البصري، وليس البصري وحده بل كل من ثبت تورطهم سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة في ما عرف بالمقبرة الجماعية بالدار البيضاء. طبعا هناك الأوامر التي تلقاها عناصر الشرطة أو الجيش أو الدرك لإطلاق الرصاص مما أدى إلى وفيات وضحايا على جميع المستويات، وهو عمل إجرامي وخارج الأمور القانونية، كما أن هناك عملية تستر على جريمة وهناك تضليل الرأي العام، إذ لا ننسى أن البصري بمجلس النواب لما وصف شهداء انتفاضة 20 يونيو 1981 "بشهداء كوميرا" أعلن حينها عن رقم الوفيات في حين أن هيئة الإنصاف والمصالحة أعلنت رقما آخر وهو أكبر بكثير مما أعلن عنه البصري بقبة البرلمان وهذا فيه تضليل للرأي العام وتستر على الجرائم، إضافة إلى الدفن السري دون احترام الشعائر الدينية ودون إشعار وإبلاغ النيابة العامة وهذه الجرائم طبعا نجد لها سندا في القانون الجنائي المغربي.


- هل استنطاق البصري من طرف العدالة الفرنسية كشاهد في قضية بن بركة هي بداية لمحاكمته رسميا في المغرب؟!
+ أعتقد أن البصري تم الاستماع إليه من طرف قاضي التحقيق الفرنسي لتسجيل أقواله بالدرجة الأولى حول اشتغال أجهزة المخابرات السرية ببلادنا وحول دور بعض المسؤولين الذين يفترض أن يستمع لهم من طرف قاضي التحقيق الفرنسي. في الوقت الذي اختطف فيه الشهيد المهدي بن بركة كان البصري ضابطا في الاستعلامات العامة ولم يكن يتوفر على كل الخيوط والمعلومات والمعطيات حول هذه الجريمة التي تم اتخاذ القرار بشأنها على مستويات عليا.


- هل هي بداية لتفعيل محاكمته بالمغرب من طرف المنظمات والهيئات والجمعيات الحقوقية؟!
+ من الصعب التنبؤ بهذا الأمر على المستوى القريب وأعتقد أن المستقبل مفتوح في وجه العديد من الاحتمالات .


- ما هي الإجراءات التي يمكن إتباعها لمحاكمة البصري في المغرب؟!
+في هذا الباب، سطرنا برنامج عمل يتعلق بتفعيل التوصيات، بالمناسبة لنا لقاء مع الفريق الاشتراكي مجلس النواب الجمعة المقبل وبعثنا لعدد من الفر ق البرلمانية والمجموعات النيابية التي كانت ضمن مكونات المناظرة من أجل التداول في إمكانية تفعيل هذه التوصيات من موقع الفرق النيابية ضمن مجلس النواب والمستشارين كما سنقدم بالموازاة مع ذلك على انجاز مجموعة من الأنشطة العمومية تتعلق بقضايا أساسية كالمؤسسة العسكرية من حيث طبيعتها ووظائفها وأدوارها ومقارنة هذه المؤسسة وكيف اشتغلت في بلادنا مع قرينتها في الدول الأخرى، نحن نعلم أن الجيش مهمته الأولى هي صد العدوان الخارجي والدفاع عن الوطن ولا حق له في تدبير الصراع السياسي الداخلي وأعتقد انه من المفيد جدا أن يتم تدشين النقاش حول هذه المؤسسة بالذات خاصة وأنه ثبت تورطها في انتهاكات جسيمة من خلال هيئة الإنصاف والمصالحة. الموضوع الثاني يتعلق بالأجهزة الأمنية حيث سنفتح نقاشا في أنشطة عمومية حول هذا الموضوع لأنه، بالنسبة لنا، أن هذه الأجهزة بالذات ليس لنا أي موقف سلبي من وجودها لكن لنا مواقف من التجاوزات التي تمارسها بعيدا عن الاختصاصات الموكولة لها بمقتضى القانون والتطاول على اختصاص أجهزة أخرى وما وقع بعد أحداث 16 ماي دليل كاف على أن هذه الأجهزة تتصرف خارج دائرة اختصاصها وخارج الشرعية والقواعد القانونية لذلك يبقى مفروضا فتح نقاش وطني في أفق القيام بإصلاح مؤسساتي للمؤسستين المذكورتين.


- صرح بنزكري بأنه ليست هناك انتهاكات في المغرب تستحق أن توصف بجرائم ضد الإنسانية. ما رأيكم في هذا؟
+ الجرائم ضد الإنسانية لها مواصفات محددة في إطار نظام روما المتعلق بالمحكمة الجنائية الدولية، وهي جرائم العدوان والحرب والإبادة وأعتقد أنه ما ثبت خلال هذه المرحلة أن الانتهاكات التي مست بلادنا تدخل في عداد الجرائم ضد الإنسانية.



حوار مع بنعبد السلام/ الجمعية المغربية لحقوق الانسان


لا زال الجدال قائم بخصوص حصيلة سنوات الجمر والرصاص ومسؤولية الوزير المخلوع، إدريس البصري فيها، لاسيما وأنه كان الرجل الثاني في المغرب بعد الحسن الثاني، خلال ربع قرن.
وقد قدر البعض ضحايا المرحلة التي تقلد خلالها المسؤولية بالمئات تارة وبالآلاف تارة أخرى، وظل التساؤل قائما: ما هي حصيلة القتلى ومجهولي المصير ما بين 1974 و 1999 وما هي طبيعة مسؤوليته فيها؟ لمحاولة الجواب على هاذين السؤالين استضافة جريدة "المشعل" محمد الصباح رئيس المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف و بنعبد السلام عبد الإله، عضو اللجنة الإدارية للجمعية المغربية لحقوق الإنسان وأجرت معه الحوار التالي:


بنعبد السلام عبد الإله (الجمعية المغربية لحقوق الإنسان)
إدريس البصري نفذ باجتهاد وإبداع انتهاكات حقوق الإنسان


- قيل الكثير عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وقدمت هيئة الإنصاف والمصالحة تقريرها النهائي للملك في نظركم، هل الأرقام المعلن عنها قريبة أم بعيدة عن حقيقة ما جرى فعلا؟
+ المسألة الأولى التي وجب التأكيد عليها، هي أن النتائج التي حملها التقرير الأخير لهيئة الإنصاف والمصالحة كشفت على شيء أساسي وهو أن الأرقام السابقة التي أعلنت عنها السلطات العمومية والمؤسسة التشريعية، كانت معطيات خاطئة وبالتالي اتضح أنها كانت تغالط الرأي العام وتنفي حقيقة ما جرى وتتستر على عدد الضحايا والقتلى والجرحى والفداحات المقترفة. إذن هذه من الإيجابيات الواجب التذكير بها.
والمسألة الثانية هي أنه في تقديرنا، نعتقد أن التقرير لم يول الاهتمام اللازم والمفترض بأحداث الريف، إذ قفزت الهيئة على المذابح التي كانت منطقة الريف مسرحا لها والتي كانت بشعة وتجاوزت كل الحدود. أما بخصوص أحداث الدار البيضاء، عندما نحاول تتبع تسلسل الوقائع وآليات التدخل والعتاد المستعمل ومدة المواجهة والأسلحة المستخدمة يتبين بجلاء أن الأرقام المعلن عنها في التقرير لا تعكس الحقيقة وبعيدة كثيرا عنها، ألم تستعمل طائرة الهيلكوبتر والدبابات في أحداث مارس 1965؟ وهل يمكن لمثل وسائل القتل هذه أن تخلف تلك الأرقام التي قدمتها الهيئة؟ ولذلك نعتقد، في الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، أنها أرقام غير كاملة ولا تعكس الحقيقة، بل هي بعيدة عنها وبالتالي ما زال مطروحا تعميق البحث والتقصي والتحقيق في المجازر التي عرفتها الانتفاضات الشعبية على امتداد تاريخ المغرب الحديث، أي منذ 1956 إلى الآن.


- هل تعتقدون أن الأرقام المعلن عنها والمرتبطة بالمختفين الذين فقدوا حياتهم قريبة من الحقيقة أم أنها لازالت بعيدة عنها؟
+ للجواب على السؤال وجب التمييز بين الملفات، فهناك ملفات واضحة كملفات المجموعات المنظمة (المعتقلين والمختطفين الاتحاديين، المجموعات "السبعينية": اليسار، مجموعات الأصوليين) والأرقام المرتبطة بها مضبوطة، كما أن هناك وضوح نسبي فيما يخص الحالات الفردية، علما أنه لم يكن هناك اهتمام بأناس غير منتمين أو لا تربطهم صلة بالمجال السياسي أو الثقافي أو الجمعوي. لكن الأرقام المتعلقة بالأحداث الاجتماعية والانتفاضات الشعبية مازالت تثير نقاشا واسعا حول مدى عكسها للحقيقة، علما أن بعض هذه الأرقام لا أعتقد أنها بعيدة عن الحقيقة.


- من المعروف أن إدريس البصري تحمل المسؤولية منذ منتصف السبعينيات إلى حدود خلعه في نهاية التسعينيات، وخلال هذه المرحلة كان المغرب مسرحا لهزات اجتماعية وغليانا شعبيا ووجهت بقمع ممنهج واسع المدى في اعتقادكم، هل يمكن الاقتراب مما جرى، لاسيما فيما يخص الضحايا (القتلى ومجهولي المصير)؟
+ أولا، في تقديري أن الانتهاكات الجسيمة التي عرفها المغرب غير مرتبطة فقط بإدريس البصري باعتبار أنه لم يتحمل المسؤولية إلا في أواسط السبعينيات (كاتب عام ثم وزيرا للداخلية بعد رئاسته لبعض الأجهزة الأمنية الاستعلاماتية والاستخباراتية)، وبالتالي فهو مسؤول ضمن مسؤولين آخرين، طبعا تحت مسؤولية الملك الحسن الثاني، باعتباره المسؤول الأول ورئيس الدولة والذي سبق أن صرح في إحدى خطاباته بأنه يعرف ثمن الطماطم، وبالتالي كلما يجري ويدور بالمغرب، إذن يظل إدريس البصري مسؤولا ضمن مسؤولين آخرين خلال هذه الحقبة (1974 – 1999) وبالتالي لا يمكن اختزال المسؤولية فيه، هذه المسألة وجب التأكيد عليها علما أن إدريس البصري بصم مرحلته بأساليبه المختلفة من القمع المباشر والتنكيل والتقتيل من جهة ومن جهة أخرى التدجين والاستقطاب وشراء الذمم وتلغيم الأحزاب وغيرها.
كم أن المقابر الأولى التي تم كشفها، أزاحت الستار عن أعداد مهمة من الضحايا يتحمل بصددها إدريس البصري الجزء الكبير من المسؤولية فيها. وعند ذكر اسمه، نستحضر أحداث 1981 و 1984 و 1990، هذا إضافة للانتهاكات الجسيمة المرتكبة في الصحراء والتي يتحمل فيها إدريس البصري حصة الأسد من المسؤولية باعتبار أنه كان مكلفا بملف الصحراء والأرقام المرتبطة بها لا يمكن ضبطها لما اتسم هذا الملف من سرية وهناك قوائم طويلة بخصوص الضحايا أعدتها لجنة التنسيق تشير إلى أعداد من المختطفين الصحراويين والذين لازال مصير الكثير منهم مجهولا، هذا إضافة إلى اللوائح التي أعدتها منظمة العفو الدولية والتي كشفت على 900 حالة، في وقت كانت لجنة التنسيق المغربية، المشكلة من الهيئة والجمعية والمنظمة المغربيتين لحقوق الإنسان وهيئة المحامين والعصبة المغربية لحقوق الإنسان، قد حصرت الرقم في 622 مختف خلال تلك المرحلة.


- سبق لإحدى التقارير الصادرة عن جمعيتكم أن أشار إلى أن عدد القتلى في هذه المرحلة تجاوز 3000 حالة، واعتبارا للتراكمات التي حققتها الجمعية في تجميع ومركزة المعلومات، هل لازلتم تعتبرون أن رقم 3000 ضحية قريب من الحقيقة؟
+ لقد أعدت الجمعية ذلك التقرير على اعتبار أن أحداث الريف خلفت ما بين 1000 و 1500 ضحية، علما أن هناك من يذهب إلى أكثر من هذا. كما أن جملة من الأرقام ظل مسكوتا عنها، إضافة إلى ضحايا الأحداث الاجتماعية التي مازالت تنتظر الكشف باعتبار أن الأرقام المعلن عنها لازالت بعيدة عن الحقيقة لذا يبدو أن هذا الرقم قد يكون مبررا.


- انطلاقا من ممارستكم كحقوقيين وارتباط جمعيتكم بهذا المجال وتتبعها للانتهاكات وفتح أبواب مقراتها لكل المواطنين وتوصلها بالعديد من الشكايات هل يمكن القول إن إدريس البصري يتحمل مسؤولية بخصوص حالة الوفيات (غير المرتبطة بالمجال السياسي) خلال مرحلة ما بين 1974 و 1999؟
+ منذ أن شرعت الجمعية في انجاز تقارير سنوية ابتداء من 1995 فكرت في تخصيص ركن لمصادرة الحق في الحياة (الوفيات في مخافر الشرطة) والتي لا تمت بصلة بالمجال السياسي، وقد لاحظنا أن هناك مئات من حالات الوفاة بفعل ممارسة التعذيب، وفي هذا الصدد يتحمل إدريس البصري المسؤولية.


- عملت أسبوعية "المشعل" على رصد هذه الحالات عبر ما نشر في الصحافة وأعلن عنه في البيانات والبلاغات وتوصلت إلى تقدير تقريبي يناهز 5000 حالة وفاة ومجهولي المصير فيما بين منتصف السبعينيات ونهاية التسعينيات، بما في ذلك حالة الوفيات غير المرتبطة بالمجال السياسي، فما رأيكم في هذا التقدير؟
+ يمكنني أن أوافيكم بالأرقام الخاصة بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتلك المتعلقة بالملفات المودعة لدى هيئة الإنصاف والمصالحة (والتي عالجت 22 ألف ملف وظلت 30 ألف ملف بدون معالجة لأنها أودعت خارج الأجل القانوني).
فنحن أمام 52 ألف ملف، علما أن الرقم متعلق بأناس تمكنوا من الوصول إلى الهيئة، فكم عدد الذين لم يتمكنوا من الوصول إليها؟ فهناك أشخاص اتصلوا بالجمعية وهم من عائلة أحد المفقودين وصرحوا أنهم توصلوا بجثمان ابن أو أب أو أخ ولم يكونوا على علم بضرورة وضع طلب لدى الهيئة. كما أن هناك بعض الأحداث التي مازالت لم نعرف عليها أي شيء، مثلا أحداث انتفاضة فلاحي أولاد خليفة بالغرب. فكم يمكن تقدير عدد الناس الذين لم يبلغوا عن انتهاكات أصابتهم أو أصابت أحد ذويهم؟


- هل رقم 5 آلاف قريب من الحقيقة؟
+ يبدو لي أن هذا الرقم مبالغ فيه شيئا ما باعتبار أن وزارة الداخلية ليست الجهة الوحيدة المسؤولة عن الانتهاكات الجسيمة، لأنه خلال انتفاضات 1981 وغيرها تدخلت قوات الجيش والدرك الملكي.


- فهل سبق أن قامت جمعيتكم بجرد حصيلة المغاربة الذين فقدوا حياتهم من أجل التغيير أو نتيجة مواقفهم السياسية؟
+ من المعلوم أن مثل هذا العمل هو من الصعوبة بمكان، فنحن بالجمعية سبق لنا وأن وجهنا عددا من مذكرات للفروع للاهتمام بهذه الإشكالية وأمددناها باستمارات في الموضوع لكن بكل صراحة لم تول له الأهمية اللازمة. أنتم ترون أن الهيئة توصلت بأكثر من 50 ألف طلب ونحن في الجمعية من الصعب أن نصل إلى مثل هذا العدد لأننا لا نتوفر على الإمكانيات التي تتوفر عليها الدولة.


- طبعا إن إدريس البصري مرتبط بمنظومة وبنهج في الحكم والتدبير، وكان على امتداد 25 سنة الرجل الثاني بالمملكة بعد الملك الحسن الثاني، فأين تكمن مسؤوليته الشخصية في كل ما وقع من فظاعات؟
+ طبعا إدريس البصري هو رمز من رموز القمع وكلنا يعلم كونه كان يجمع بين وزارتين لا علاقة بينهما، الاتصال والإعلام من جهة ووزارة الداخلية من جهة أخرى. ومهما يكن من أمر، فإن إدريس البصري كان منفذا أمينا لسياسة النظام، بل كان منفذا باجتهاد وإبداع لانتهاكات حقوق الإنسان ببلادنا.


- هل يمكن وصف جملة من الانتهاكات الجسيمة المقترفة بأنها تتصف بطابع جرائم ضد الإنسانية؟
+ طبعا ما جرى في الريف وفي الصحراء وأثناء الانتفاضات الشعبية هو من قبيل جرائم ضد الإنسانية – سواء من حيث الكثافة ومن حيث المنهجية، وفي بعض الأحيان استمرت الأحداث والمواجهة لأيام.


- لو افترضنا أن إدريس البصري سيحاكم على هذه الجرائم، ما هي التهم التي يمكن توجيهها له؟
+ أهم التهم...
(صمت برهة قبل أن يستأنف كلامه) ... هناك الاختطاف، القتل العمد مع سبق الإصرار وربما الإعدام خارج نطاق القانون والمحاكمات غير العادلة.

- هل هناك انتهاكات أو خروقات أو تجاوزات كبرى مورست في عهد إدريس البصري ولم يشر إليها الإعلام أو لم يتم الاهتمام بها بعد؟
+ أعتقد أن انتهاكات إدريس البصري التي تم الكشف عليها، هي أساسا تلك المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية، علما أن له يد طويلة في الانتهاكات المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كما أعتقد أن هناك ملفات كبيرة متعلقة بتبديد الثروة الوطنية ونهب المال العام لعب فيها إدريس البصري دورا كبيرا.

إدريس ولد القابلة