skip to main |
skip to sidebar
حين فكر الملك الحسن الثاني التخلي عن العرش
2008 / 12 / 1
في غضون شهر أكتوبر من سنة 1975 أقر الملك الراحل الحسن الثاني بحق المغرب في صحرائه الغربية، وأعلن عن تنظيم مسيرة سلمية مكنت من فتح الطريق لاسترجاع الصحراء بعد أكثر من 75 سنة من الاحتلال الاسباني.
إنها المسيرة الخضراء لتأكيد مغربية الصحراء، والتي شملت 350 ألف مغربي اجتازوا الحدود رافعين القرآن الكريم والأعلام الوطنية.
وقبل أن يعرف المغاربة والعالم بأمر هذه المسيرة، التي شملت الكثيرون بـ "مسيرة القرن"، أقر العديد من المحللين والمراقبين بأن مقولة "لعبة الحرب في الصحراء من أجل العرش" قد تكون حقيقة إستراتيجية فرضتها الظروف على النظام بعد انقلابين عسكريين كادا أن يعصفا بالعرش. لهذا ولغيره من الأسباب راهن الملك الراحل الحسن الثاني على المسيرة الخضراء وهدد بالاستقالة والتنحي عن الحكم حال فشلها، وعندما أمسك بخيوط بلوغ مراده باسترجاع صحرائه من إسبانيا أوقف الملك المسيرة وبدأ حرب الصحراء.
المسيرة الخضراء إعدادها ... تنظيمها.. تدبيرها وكواليسها
منذ صيف 1975 تدهورت الأوضاع بالصحراء وبلغ هذا التدهور حدة تطلبت إيجاد مخرج عاجل.
فبعد صدور رأي محكمة العدل الدولية انطلقت المسيرة الخضراء، التي كان الغرض منها الضغط على إسبانيا من أجل جرها للمفاوضات بنية التوصل إلى اتفاق في صالح المغرب، ومنذ الإعلان عن انطلاق المسيرة الخضراء أعلن عن بداية المفاوضات التي آلت إلى اتفاقية مدريد في 14 نونبر 1975.
في البداية التقى أحمد عصمان (وزير أول آنذاك) مع "خوان كارلوس" و"آرياس نافارو"، إلا أن هذا اللقاء لم يثمر، وفي نفس الوقت بعث الحسن الثاني أحد وزرائه بمعية عضو من ديوانه إلى الجزائر لمقابلة الرئيس الهواري بومدين على أمل إقناعه، وتبين وقتئذ أن اسبانيا عازمة على الدفاع عن وجودها بالصحراء، حتى ولو أدى ذلك إلى مواجهة مسلحة، وفعلا قامت مدريد باستنفار قواتها المسلحة بالصحراء، ورابط 35 ألف جندي اسباني على بعد أقل من 20 كلم من الحدود الفاصلة بين المغرب والصحراء حينئذ، مع تلغيم جزء منها لقطع الطريق على المشاركين في المسيرة.
وفي يوم 3 نونبر التحق رئيس "الجامعة الصحراوية" (الهيأة الصحراوية الوحيدة المنتخبة)، خاطري الجماني، بالمغرب وجدد البيعة بين يدي الملك في اليوم الموالي، حيث نظم حفل خاص لهذا الغرض بمدينة أكادير.
وألقى الحسن الثاني يوم 5 نونبر 1975 خطابا لإعطاء انطلاقة المسيرة الخضراء، إذ أمر المتطوعين ببداية السير في "نظام وانتظام" صبيحة اليوم الموالي (6 نونبر)، وقال في هذا الخطاب :"غدا إن شاء الله ستنطلق المسيرة الخضراء، غدا إن شاء الله ستطأون طرفا من أراضيكم وستتلمسون رملا من رمالكم وستقبلون ثرى وطنكم العزيز".
تنظيم "المسيرة"
قبل 6 نونبر بأيام قليلة التقى "كارو مارتينيز"، الوزير بالرئاسة، المكلف بالصحراء، بالملك الراحل الحسن الثاني بأكادير، وأجرى معه حديثا رأسا لرأس دام ساعات لم يعلم أحد فحواه. وفي اليوم الموالي بدأ تحرك الجيش المغربي بشرق طرفاية نحو الصحراء، 20 ألف جندي بقيادة الكولونيل أحمد الدليمي (ثلث القوات المسلحة وقتئذ) مقسمين إلى 4 وحدات، قادها كل من الكولونيل بنعمان والكولونيل بنكيران والكولونيل المجاوي والكولونيل الوالي.
آنذاك علم المحافظون الاسبان أن أيامهم بالصحراء أضحت معدودة وأنه لا مناص من الجلاء، فعمل الضباط وضباط الصف الموالين لفرانكو على تسريح 2500 صحراوي يعلمون بالمجموعات المتحركة " تروباس نوماداس" والشرطة الحدودية الاسبانية دون تجريدهم من السلاح ووسائل النقل، حيث نصحوهم بالالتحاق بجهة البوليساريو. وهؤلاء هم الذين شكلوا النواة الأولى لمقاتلي الجبهة.
في خضم هذا الجو العام انطلقت المسيرة الخضراء، التي شكلت في واقع الأمر عدة مسيرات، حيث كان كل إقليم يمثل مسيرة، لها قيادتها وهيكلتها لتدبير شؤونها اليومية، وارتبطت هذه القيادات الإقليمية باللجنة المركزية المكونة من ممثلي مختلف الوزارات والمصالح المركزية.
فتحت كل عمالة وإقليم مكاتب لتلقي طلبات التطوع لانتقاء 350 ألف للمشاركة في المسيرة، وهو العدد الذي يمثل المواليد الجدد كل سنة بالمغرب، مع تحديد "كوطا" مسبقة للنساء، 10 في المائة من مجموع المشاركين ( أي 35 ألف امرأة)، كما تم تحديد "كوطا" إجمالية لكل إقليم، مرتبطة بعدد ساكنته وولائهم التاريخي للعرش والملك، علما أن الحسن الثاني كان حينها غاضبا على بعض مناطق المغرب، الشيء الذي أثر على عدد متطوعيها في المسيرة الخضراء.
كما انه تم تعيين 44 ألف مشارك من الرسميين والمؤطرين والإداريين، لكن أبعد الطلبة من المشاركة وذلك بفعل القوة السياسية التي كانوا يمثلونها آنذاك تحت لواء الاتحاد الوطني لطلبة المغرب (أ.و.ط.م) الممنوع وقتئذ، وكذلك نظرا لانتقاداتهم اللاذعة للنظام وللقيم عليه، كما ساهم في المسيرة 470 طبيبا وممرضا.
على امتداد 12 يوما عملت 10 قطارات يوميا وبدون انقطاع على نقل المتطوعين من الشمال إلى مدينة مراكش، ومنها إلى أكادير على متن الشاحنات والحافلات التي بلغ عددها 7813، تم نقل المتطوعين من أكادير إلى مخيمات أقيمت لاستقبالهم بضواحي طانطان وطرفاية.
وتحركت الموجة الأولى من المتطوعين يوم 23 أكتوبر 1975 انطلاقا من مدينة الرشيدية.
شارك أكثر من 5000 عون مدني (موظفو الدولة والجماعات المحلية) في تأطير المتطوعين علاوة على مجموعة من المنتخبين.
على سبيل المثال لا الحصر، رافق 10 آلاف متطوع من الرباط، سلا، 8 قواد و20 من الشيوخ والمخازنية وطبيبان و12 ممرضا و62 مرشدا اجتماعيا و20 من الوعاظ و63 إطارا وموظفا مدنيا في اختصاصات مختلفة و120 عنصر من الكشفية.
وقام ما يناهز 20 ألف فرد من القوات المسلحة والدرك بتأطيرها وحمايتها والحفاظ على سلامة المشاركين فيها.
بالرجوع إلى الإحصائيات والأرقام المتوفرة تبين أن المسيرة الخضراء تطلبت ما يناهز 20 ألف طن من المواد الغذائية، وأكثر من 2500 طن من المحروقات و230 سيارة إسعاف.
الاجتماع السري مع ممثلي الملك في الأقاليم
جرت العادة بتنظيم اجتماع سنوي بوزارة الداخلية يضم كل عمال الأقاليم لتدارس جملة من القضايا، إلا أنه سنة 1975 توجه العمال إلى الرباط فأخبرهم وزير الداخلية أن اجتماع هذه السنة غير عاد، ثم رافقهم إلى القصر للمثول أمام حضرة الملك.
في تلك الليلة الرمضانية (26 شتنبر 1975) علم ممثلو الملك في الأقاليم بأمر المسيرة الخضراء وأقسموا أمام الحسن الثاني بالحفاظ على السر، وبمجرد عودتهم إلى أقاليمهم قاموا بحصيلة ما يتوفرون عليه من مخزون المواد الغذائية ووسائل النقل (حافلات وشاحنات) وخيام وأغطية تحت غطاء مهام وهمية لعدم فضح أمر المسيرة.
وبعد اجتماع 26 شتنبر توجه 700 رجل ومعاون سلطة بوزارة الداخلية إلى قاعدة بن كرير للخضوع لتكوين مكثف وسريع بخصوص تأطير المجموعات ودروس في المواطنة والوطنية، على غرار ما سبق تطبيقه على المتطوعين لبناء طريق الوحدة في بداية الاستقلال عندما كان الحسن الثاني وليا للعهد، حيث ساهم فيها وأنجزت تحت إمرته، وقد خضع 700 من المختارين في ذلك التدريب دون علمهم بأمر المسيرة الخضراء.
غرائب وطرائف وفواجع
لم تخل المسيرة الخضراء من بعض الأحداث الفاجعة والمصائب والطرائف، ومما يحكى بهذا الخصوص أن ساكني مخيم طانطان انتظروا صدور أمر العودة 25 يوما وعانوا خلالها قلة المياه والغذاء، وقد وصل الأمر إلى حد "انتفاضة" بعض المجموعات على قادتهم، عندما لاحظوا أن شاحنات محملة بالمواد الغذائية اختفت من المخيم تحت جناح الليل، وهم لا يعلمون وجهتها، سيما أنه لوحظ خصاص في الغذاء وقتها.
وقبل هذه النازلة، دارت نقاشات حول تهريب المواد الغذائية عوض منحها للمتطوعين، وكان الكثير يستغربون منذ البداية تقدم شاحنات محملة بالبضائع نحو اتجاه معاكس (أي نحو الشمال وليس نحو الجنوب حيث يتواجد المتطوعون الذين خُصِّصَتْ لهم هذه المواد).
احتقن الجو بالمخيم، وبعد يومين حلقت طائرات وقذفت بأكياس ممتلئة بالخبز الحافي، وهو ما أكده الصحفي البريطاني "ستيفان هوغيس" في حينه.
ومن غرائب مخيم طانطان، يحكي أحد المتطوعين، ذات يوم حضرت شاحنة محملة بالتين "الشريحة"، فلم يمتلك المتطوعون أنفسهم وانقضوا عليها كالنحل وبدؤوا ينهبون محتواها إلى أن أفرغوها عن آخرها، وبعد أيام قليلة أضحى أغلب ساكنة المخيم الذكور ينشطون كل ليلة وينظمون السهرات خلافا للسابق، وذلك بعدما "قطروا" التين الذي استولوا عليه وتوفرت لهم كميات كبيرة من "ماء الحياة"، حيث قضوا عدة ليالي حمراء حسب ما تم توفيره من شراب.
ومن المصادفات الغريبة أن 2000 من المتطوعين ساهموا في إحداث مدرج لهبوط الطائرات بالقرب من مخيم طرفاية خلال يومين فقط، وذلك بنفس المكان الذي سقطت فيه طائرة الكاتب الفرنسي الشهير "سان إيكسوبيرى" في أحد أيام سنة 1926.
كما تناسلت بعض الإشاعات، مفادها أن البوليساريو اختطفت بعض المتطوعين والعسكريين المرافقين لهم، إلا أنه لم يكن من الممكن التأكد من صحتها، لكن أحد المحتجزين السابقين بنتدوف أقر بأن عناصر البوليساريو تمكنوا فعلا من اختطاف بعض المدنيين، لكن ليس من المسيرة، وقد حدث ذلك في سنة 1976، ومن ضمن المختطفين بعض الممرضات العاملات في صفوف الجيش في مواقع عسكرية.
وحسب الصحفي "ستيفان هوغيس" سُمِح لبعض المتطوعين بمصاحبة زوجاتهم، بعضهن كن حوامل وضعن خلال المسيرة وأخريات حملن خلالها، علما أن كل هؤلاء المواليد حملوا اسم "مسيرة" تيمنا بالمسيرة الخضراء.
وبالرجوع إلى ما صرح به لنا بعض المتطوعين، يتبين أن التهميش طال المشاركين فيها فور رجوعهم،ولم يتم الانتباه ولو لدعوتهم إلى حضور بعضهم للاحتفالات التي تقام بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء كل سنة. والكثيرون منهم دفعتهم الحاجة إلى لقمة العيش لبيع الميدالية النحاسية التي خرجوا بها من المسيرة بدريهمات معدودة.
وذهب البعض إلى التساؤل لماذا لم يتم التفكير في تمثيل المشاركين في المسيرة، ولو تمثيلا شرفيا في المجلس الاستشاري لشؤون الصحراء، وحتى في وفد المفاوضات الحالية، وذلك باعتبارهم الذين أعطوا الانطلاقة لآلية جديدة في التاريخ لاسترجاع المسلوب بطريقة سلمية. لقد تكبدوا التكدس جماعات في الشاحنات ولم يعبؤوا بالبرد القارس ولا بالحرارة الشديدة، وبعضهم وثق مما كان يقال حول تخصيص بعض الامتيازات للمشاركين في المسيرة، سيما وأنه تناسلت عدة وعود على لسان أعوان السلطة والمقربين منها، مفادها أن كل من شارك في المسيرة ودخل الصحراء سوف يحصل على امتياز ما، إذ قيل، منها الحصول على منزل مجانا أو عمل.
ومهما يكن من أمر، لابد من التفاتة لهؤلاء، فماذا سيكلف الدولة إقامة نصب تذكاري بمدينة العيون أو الرباط يخلد هذه الذكرى ويذكر الأجيال القادمة بلحظة حيوية في تاريخ المغرب الحديث، وهذا من باب أضعف الإيمان، باعتبار أن المسيرة الخضراء فتحت الطريق أمام مجموعة من الضباط الكبار للإثراء السريع.
ففي صبيحة اليوم الموالي لانطلاق المسيرة (7 نونبر) قال الحسن الثاني " إن الأجيال القادمة ستدرس "المسيرة الخضراء" مثل ما يدرسون المسيرة الكبرى لصديقنا ماوتسي تونع، علما أنه، آنذاك كانت الماركسية اللينينية و"الماوية" (نسبة لماو)، ضاربتين أطنابهما في صفوف الشبيبة المدرسية والحركة الطلابية".
لقاء الحسن الثاني مع "صوليس"
جاءت مقابلة الحسن الثاني مع الاسباني "صوليس" لتحضير الأجواء من أجل مخرج يرضي البلدين معا، وقد تم الاضطلاع على جانب مما دار في هذا اللقاء، عبر محضر أعده وحرره السفير الاسباني بالرباط، في ظل آخر حكومة لفرانكو بمعية "أنطونيو غاميرو" الذي تولى وزارة الإعلام في أول حكومة، شكلها الملك "خوان كارلوس" بعد توليه العرش رسميا كملك.
ومما جاء في هذا التقرير أن "صوليس" حرص على أن يبحث مع الملك الحسن الثاني عن مخرج يحفظ مساعي الأمم المتحدة، ويضمن تخلص إسبانيا من ملف الصحراء. وكان الحسن الثاني حريصا بدوره على تسوية ودية للقضية مع إسبانيا، اعتبارا لأن تعاونهما مضمون، خلافا لما كان عليه الحال مع الجزائر، إذ كان الملك يستبعد أي دور للجزائر ويحبذ الاقتصار على تسوية إسبانية ـ مغربية ـ موريتانية.
في هذا اللقاء، حسب تقرير السفير الاسباني، بدأ "صوليس" حديثه بإبراز تفهم الحكومة الاسبانية لصعوبة إلغاء المسيرة الخضراء التي قرر الملك تنظيمها، غير أنه صرح بأن من الممكن إصدار الأمر إلى المشاركين فيها بالتوقف، عند اجتياز الحدود ببضعة كيلومترات لا أكثر.
وزاد "صوليس" مضيفا.. إن هناك قرارات من الأمم المتحدة بشأن الصحراء، وهي قائمة على مبدأ تقرير المصير، لكن هذا لا يحول دون تفاهم بين اسبانيا والمغرب، على تسوية الخلاف لصالح الرباط، وإذا ما تم الاتفاق اليوم على شيء، فإن المحادثات فيما بعد ستكون سهلة.. وأضاف "صوليس" موضحا، إن اسبانيا ترغب أن تكون في المغرب ملكية قوية، وخصوم الملكية المغربية هم خصومنا نحن أيضا.
حين فكر الحسن الثاني في تنظيم المسيرة
خطرت فكرة تنظيم المسيرة الخضراء للملك الراحل الحسن الثاني شهورا قبل إعلان محكمة "لاهاي" الدولية عن رأيها الاستشاري في ملف الصحراء، علما أن طرح هذه القضية على المنتظم الدولي ظل مطلبا ثابتا تكرر لعدة سنوات.
كما أن خطاب المسيرة لم يكن مرتبطا برأي المحكمة الدولية ولا باستفحال مرض فرانكو، وإنما كان هاذان الحدثان بمثابة ساعتين، لكل منهما توقيتها الخاص، لكن عقارب كل من الساعتين سجلت التقاء الموعدين.
حسب رشيد الحديكي، صاحب مؤلف متميز بخصوص السياسة الخارجية في عهد الحسن الثاني، وهذا ما أكده كذلك الصحفي البريطاني "سيتفان هوغيس" (Stephane Hughes)، تولدت فكرة تنظيم المسيرة الخضراء لدى الملك الحسن الثاني في مايو 1975 على الأقل"، إذ في حديثه يوم 8 مايو مع إذاعة "فرانس بريس"، لمح إلى ذلك عندما سأله الصحفي عن دواعي وأسباب تجمع القوات المسلحة المغربية على طول الحدود مع الصحراء آنذاك، وكان جوابه أنه بمثابة إجراء وقائي لحماية مسيرة سيقوم بها المغاربة والملك في مقدمتهم، في اتجاه الصحراء، وذلك تحسبا لو قام بعض "المعقدين" بإطلاق مسلسل "تقرير المصير" بالصحراء.
بدأ التخطيط الفعلي للمسيرة الخضراء يوم 21 غشت 1975، حينما أسر الملك الحسن الثاني بعزمه على تنظيم مسيرة إلى الصحراء لثلاثة عسكريين، "الكولونيل أشهبار (الكاتب العام للدفاع)، الكولونيل بناني (المكتب الثالث) والكولونيل الزياتي (المكتب الرابع)، حيث كلفهم بالاعتكاف لإعداد مخطط شامل للمسيرة.
وبعد مرور أقل من شهر، حضر يوم 16 شتنبر 1975 ستون (60) من عمال الأقاليم إلى مقر وزارة الداخلية لحضور اجتماع روتيني مثل كل سنة، إلا أن وزير الداخلية حينئذ أخبرهم عن حدوث تغيير في برنامج اللقاء ثم قادهم إلى القصر الملكي، وهناك أدوا القسم في حضرة الملك للحفاظ على سرية الإعداد للمسيرة الخضراء، وطولبوا بالتحضير لها دون علم أحد بأن ذلك الإعداد والتهيؤ يخص تنظيم مسيرة إلى الصحراء.
وبهذا الخصوص يقول رشيد الحديكي " على امتداد 20 يوما كان تبادل المعلومات بخصوص الإعداد للمسيرة، بين الرباط والأقاليم، يتم كل ليلة بواسطة أشخاص، لم يسمح لهم باستعمال الورق والكتابة ولا الاتصال عبر الهاتف أو الراديو أو التليكس، فكل المعلومات كانت تمرر بطريقة شفوية تحت جناح الظلام وفي سرية تامة.
وبعد سويعات من إعلان محكمة "لاهاي" عن رأيها يوم 16 أكتوبر 1975، كشف الملك الراحل الحسن الثاني للعالم عن قراره الرامي إلى تنظيم المسيرة الخضراء، لقد فاجأ الجميع بما في ذلك مخابرات الدول العظمى.
في البداية حدد موعد انطلاق المسيرة يوم 26 أكتوبر للمزيد من الضغط على مدريد لقبول الدخول في مفاوضات، وكان أول رد فعل قامت به الحكومة الاسبانية، أنها سحبت ملف الصحراء بين يدي وزير خارجيتها المعروف بقربه للجزائر، وسلمته إلى الكاتب العام للحزب الوطني (وكان وزيرا آنذاك) "خوسي صوليس رويز"، الذي طار إلى الرباط يوم 21 أكتوبر لمقابلة الملك بمراكش وتحادث معه عدة ساعات. بعد ذلك أعلن الحسن الثاني عن إرجاء انطلاق المسيرة إلى يوم 26 أكتوبر، وعندما اتضح أن المسار يتجه نحو الحصول على اتفاق بين الرباط ومدريد أرجئ موعد الانطلاقة مرة أخرى إلى 6 نونبر لإعطاء مزيد من الوقت قصد التوافق بخصوص المفاوضات.
آنذاك لم تبق الجزائر مكتوفة الأيدي، وإنما كان رد فعلها فوريا، إذ بدأت تلوح بتهديد توقيف صادراتها من النفط والغاز إلى اسبانيا، الشيء الذي دفع التيار المناهض للمغرب في صفوف الحكومة الاسبانية، إلى الدعوة لعقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن للتنديد بالمسيرة الخضراء، وذلك بعد أن أعلنت الحكومة الاسبانية عن عدم استبعادها لاستعمال السلاح إذا تجاوز متطوعو المسيرة الحدود.
في 5 نونبر حضر "أندري ليوين" المبعوث الأممي إلى المغرب وقابل الملك، وبعد محادثات طويلة حصل الاتفاق على أن خرق الحدود سيكون رمزيا، ولن تصل المسيرة إلى "الدوارة" حيث كانت ترابط الجيوش الاسبانية.
وفي صبيحة اليوم الموالي (6 نونبر) أصدر الملك الحسن الثاني أمره بانطلاق المجموعة الأولى من المشاركين، وضمت 44 ألف متطوع، آنذاك وافقت اسبانيا على إجراء المفاوضات وأصدرت الأوامر لجنودها بالصحراء بعدم إطلاق النار.
حضر مبعوث اسبانيا إلى المغرب يوم 8 نونبر من أجل إخبار الحسن الثاني بان الحكومة الاسبانية مستعدة للتفاوض، وانطلقت المفاوضات يوم 12 نونبر بمدريد، في حين عاد المشاركون في المسيرة إلى مخيماتهم بطرفاية وطانطان ومكثوا هناك ينتظرون تعليمات جديدة.
بعد مرور ثلاثة أيام أسفرت المفاوضات عن اتفاق جلاء الصحراء مقابل التزام المغرب بعدم المطالبة باسترجاع سبتة ومليلية، وكذلك إبرام اتفاقية بخصوص الصيد البحري والاستغلال المشترك (المغربي الاسباني) لفوسفاط بوكراع والسماح لاسبانيا بالحفاظ على ثلاث قواعد عسكرية على التراب المغربي.
آنذاك صرح الجنرال "سالازار" قائد القوات الاسبانية للصحفي البريطاني "ستيفان هوغيس"، قائلا :" همي الوحيد هو انسحاب رجالي من الصحراء بكرامة، مرفوعي الرؤوس وترك المغاربة والجزائريين يتنازعون فيما بينهم".
حين فكر الحسن الثاني في الاستقالة
لم يكن قد دار ببال المغاربة أن الراحل الحسن الثاني الذي حكم المغرب ما يزيد عن ثلاثة عقود ونيف، قد تخالجه فكرة التنحي عن حكم المغرب، من كان يظن أن هذا الملك قد يترك فكرة من هذا النوع تحتل تفكيره لحظة، لتصبح شغله الشاغل آنذاك، خاصة وأنه سعى بكل الوسائل إلى تثبيت دعائم الحكم بمملكة العلويين؟
صرح مؤنس الحسن الثاني الراحل "بين بين"، الذي نذر حياته في سبيل ترويق مزاج ملك المغرب آنذاك، أن الراحل الحسن الثاني كان على أهبة تقديم استقالته والتنحي عن الحكم إذا ما فشلت المسيرة الخضراء في بلوغ أهدافها المنشودة، أي استرجاع الأقاليم الصحراوية. لكن كيف تسللت فكرة التخلي عن حكم المملكة إلى مخيلة الحسن الثاني؟
"ماذا كنتم ستفعلون لو أخفق رهانكم على المسيرة الخضراء"؟ كان هذا السؤال واحد من عشرات الأسئلة التي ألقاها الصحفي الفرنسي "إيريك لوران" على الراحل الحسن الثاني، وبغض النظر عما أفضى به ملك المغرب آنذاك من أجوبة لإطفاء حرقة السؤال، غير أن مضمونها حسب المتتبعين، أخذ طابع اعترافات لم يكن من السهل أن تنطلق على لسان ملك عض على حكم المغرب بالنواجد، فماذا كان سيفعل الحسن الثاني لو اخفق رهانه على المسيرة الخضراء؟ يقول الحسن الثاني جوابا على ذلك في كتاب ( ذاكرة ملك) "عندما عدت إلى الرباط قادما من أكادير صعدت إلى شرفة القصر لأتأمل اخضرار ملعب الغولف، ونظرت إلى البحر نظرة مغايرة وأنا أخاطب نفسي (لقد كان من الممكن أن لا تعود إلى الرباط إلا للم حقائبك استعدادا للمنفى)، فلو فشلت المسيرة لكنت استقلت، إنه قرار أمعنت التفكير فيه طويلا بحيث كان يستحيل علي أن أترك على الساحة ضحايا لم يكن لهم سلاح سوى كتاب الله في يد والراية المغربية في اليد الأخرى. إن العالم كان سيصف عملي بالمغامرة... وكما نقول عندنا في اللهجة المغربية "ما كان بقي لي وجه أقابل به الناس".
إن فكرة التنحي عن العرش التي جثمت بثقلها على ذهن الملك الراحل، كان من شأنها أن تشكل أزمة دستورية وسياسية، لكن الحسن الثاني كان قد وضع كل الاحتمالات من أجل ذلك.. وجوابا عن الكيفية التي كان من الممكن أن يتصرف على ضوئها سياسيا ودستوريا، فقد قال " كنت سأشكل مجلسا للوصاية في انتظار أن يبلغ نجلي سن الرشد، وكنت سأذهب للعيش في فرنسا أو في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالضبط في نيوجيرزي، حيث أتوفر على ملكية هناك"، لكن هل كان الحسن الثاني على أهبة الرحيل عن المغرب في حالة فشل المسيرة الخضراء؟، "أجل... وفي هذه الحال كان غيابي سيكون جسديا فقط، لأن المرارة لن تفارقني لاسيما وأنني ذقت طعم المنفى"، يقول الملك الراحل.
كم كلفت المسيرة الخضراء؟وكيف تم تمويلها؟
حسب الكاتب "موريس باربيي"ن صاحب كتاب "نزاع الصحراء"، كلفت المسيرة الخضراء زهاء 300 مليون دولار، أي ما يقارب 3 ملايير درهم (300 مليار سنتيم) تمّ توفيرها بواسطة اكتتاب وطني ومساعدة خارجية آتية أساسا من المملكة العربية السعودية.
لقد تحمل المغاربة جزءا كبيرا من هذا المبلغ بواسطة اكتتاب وطني نادى به الملك، وقد أخذ في واقع الأمر أخذ شكل "ضريبة" طبقت على الأشخاص المعنويين (الشركاء) والأشخاص الذاتيين، تقمصت شكل اقتراض ضخ أكثر من 108 مليار في خزينة الدولة في أقل من 3 أشهر.
أما حسب أحد الاقتصاديين المغاربة فقد كلفت الصحراء، بدءا من سنة 1975 على الأقل، 950 مليار دولار، علاوة على أكثر من 250 مليار درهم كمصاريف مدنية، علما أن مداخيل قطاع السياحة لم تتجاوز 40أو 50 مليار درهم. ويذهب فؤاد عبد المومني إلى القول بأنه تم صرف أكثر من 120 مليار دولار (ما يناهز 1200 مليار درهم) منذ 1975 لسد المصاريف العسكرية والمدنية المرتبطة بالصحراء.
علما أن موضوع كلفة نزاع الصحراء ظل موضوعا نادرا ما يأتي الإعلام المغربي على الاهتمام به، ذلك في وقت ظل فيه ملف الصحراء يكلفنا سنويا، حسب تقدير عبد المومني، ما يمثل 10 بالمائة من الناتج الوطني، وهو حمل ساحق ظل يثقل كاهل المغاربة ويرجئ خدمة التنمية الشاملة إلى موعد غير مسمى.
أما الملك الراحل الحسن الثاني، فله رأي آخر في موضوع تمويل المسيرة الخضراء، إذ قال جوابا عن مسألة التخطيط لتمويل المسيرة" استدعيت وزير التجارة ووزير المالية وقلت لهما (إن شهر رمضان قد يكون قاسيا، إذ المحاصيل الزراعية كانت متوسطة، فهل يمكنكما من باب الاحتياط تخزين كمية من المواد الغذائية؟ حتى إذا وجدنا أنفسنا في حاجة إلى عرضها في السوق أمكننا المحافظة علي سعر ثابت لها)، فأجابا: (بكل تأكيد، وما هي الكمية التي يتعين تخزينها؟)، فقلت لهما (تمويل يكفي لشهر أو شهرين)".
ومهما يكن من أمر تعد الكلفة الاقتصادية والاجتماعية لملف الصحراء وكلفة تضييع فرص خدمة التنمية بسبب نزاعها، كلفة ضخمة جدا، سيما على امتداد فترة حرب الصحراء، التي دامت 3 سنوات كوضعية حرب واضحة، و30 سنة كوضع "لا حرب لا سلم"، لقد تطلبت من المغرب والمغاربة صرف مئات الملايير من الدراهم، هذا في وقت ظل فيه المغرب في حاجة للجزائر، وظلت فيه الجزائر في حاجة إلى المغرب، لكن الحقيقة المرة بقيت كما هي، "اتفق العرب على ألا يتفقوا"، وما دام الأمر كذلك لن يحصد كل طرف إلا ما زرع.
أيام عصيبة
حسب المقربين، تغير مزاج الملك الحسن الثاني منذ بداية أكتوبر 1975، حيث أضحى سريع الغضب لا يأكل ولا ينام إلا نادرا، يكاد لا يفارق سماعة التلفون.
كان الحسن الثاني يتابع لحظة بلحظة تحركات المتطوعين الـ 350 ألف في المسيرة الخضراء منذ انطلاقة المجموعة من مختلف جهات المملكة وتجميعها بمخيمات أقيمت بضواحي طرفاية وطانطان، ثم الانطلاق نحو "الطاح" لاختراق الحدود بعمق 15 أو 20 كلم، وإقامة مخيم هناك على مسافة قريبة من موقع تمركز الجيوش الاسبانية. آنذاك تمكنت عناصر من الجيش المغربي من التسلل إلى الصحراء، وقبل ذلك بيومين (فاتح وثاني نونبر) حدثت اشتباكات في شمال الصحراء بين عناصر القوات المسلحة ومقاتلي البوليساريو، الأول أسفر عن سقوط 50 قتيل والثاني عن 37 قتيلا.
يقول الصحفي الاسباني "خافيير توسيل" في إحدى مقالاته الشهيرة، نشرها تحت عنوان "المسيرة الخضراء التي حركت مسلسل استرجاع المغرب لصحرائه الغربية"، لقد جرت مقابلة في 21 أكتوبر 1975، بين الحسن الثاني والمبعوث الاسباني، "خوصي صوليس" لتدارس عواقب قرار المغرب بتنظيم مسيرة جماهيرية سلمية نحو الصحراء الخاضعة آنذاك للحكم الاسباني.. وأضاف أن الملك الحسن الثاني وصف ذلك اللقاء بأنه حديث من "أندلسي إلى أندلسي".
وكان صوليس غير مؤهل ديبلوماسيا للقيام بهذه المهمة، إذ لم تكن تربطه أي علاقة يالحسن الثاني، ولا يعرف الكثير عن المغرب، فكل سوابقه بهذا الخصوص تدل أنه خرج للصيد ذات مرة رفقة الحسن الثاني، إذ لم يبرم أي اتفاق خلال هذا اللقاء، إلا أنه حدد مسار كل الأحداث اللاحقة، وانتهى الأمر بجلاء اسبانيا عن الصحراء.
يقول "توسيل" خلال هذا اللقاء تبادل الملك والمبعوث الاسباني عبارات كيفت الأجواء ووجهت الخواطر نحو البحث عن انفراج للأزمة التي نشبت بين المغرب وإسبانيا، هذا في وقت كان الديكتاتور فرانكو قد دخل فترة الاحتضار.
علما أن الحسن الثاني، حينما قابل "صوليس" لم يكن يعرف بخطورة الحالة الصحية لفرانكو، وقبل أسابيع كانت هناك دعوة أوربية لقطع العلاقات مع مدريد على إثر إعدام أعضاء من منظمة "إيطا" الباسكية"، إذ شنت آنذاك حملة عالمية قوية ضد حكم فرانكو بعد الأحكام القاسية الصادرة في حق أولئك، ضمنهم سيدة حامل. ندد الإعلام ومعه مختلف المحافل الديبلوماسية، شرقا وغربا، بفرانكو، باستثناء بلدين اثنين في العالم أجمع، الشيلي (في عهد بينوشي) والجزائر "(في عهد الهواري بومدين)، آنذاك انفردت جريدة "المجاهد" الجزائرية بالقول إن نظام فرانكو ضحية لحملة صهيونية بسبب موقفه المؤيد للعرب، ومن الأسباب التي دفعت الجزائر إلى اعتماد هذا الموقف الغريب آنذاك، الحفاظ على ود وزير الخارجية الاسباني "كورتينا إي ماوري" الممثل للتيار المراهن على الجزائر، المناهض للتيار داخل حكومة فرانكو، الذي كان يريد التخلص من ملف استعماري ظلت اسبانيا تجره معها وجلب لها متاعب في المجتمع الدولي وعمق عزلتها، وكاد أن يلقي بها في فتن داخلية على غرار ما وقع في البرتغال بعد اندلاع ثورة القرنفل.
كان للجزائر آنذاك دافع خاص، الحفاظ على التفاهم مع "كورتينا إي ماوري" بخصوص الصحراء، إذ كان هذا الأخير بصفته وزيرا للخارجية يعتمد بقوة على التزكية الجزائرية لموقف إسبانيا الهادف إلى إنشاء نظام انفصالي بالصحراء، ضدا على المغرب الذي طالب استعادة السيادة على أقاليمه الجنوبية، معززا آنذاك بموقف مبدئي من لدن الجامعة العربية، التي صرح أمامها الرئيس الجزائري الهواري بومدين، في قمة 1974 قائلا بأن الجزائر لا مطلب لها في الصحراء، لا برا ولا بحرا، وإنها تؤيد الاتفاق المغربي الموريتاني، بل زاد على ذلك بتأييدها للمغرب في استعادة سبتة ومليلية من اسبانيا. علما أن التقارب بين "كورتينا" ونظيره الجزائري بشأن الصحراء، كان قد تبلور في محكمة "لاهاي" الدولية منذ مايو 1974، حيث انبرى المندوب الجزائري آنذاك، البيجاوي، لتعزيز الأطروحة الاسبانية بشأن الأرض الخلاء، وكذلك كان الأمر في عدد من المحافل الدولية، إضافة إلى تحريك الأدلة الإعلامية الجزائرية في اتجاه تكريس نظرية تقرير المصير.
ومن أقرب المقربين للحسن الثاني في هذه المرحلة الصعبة، مؤنسه وجليسه "الفقيه بين بين" الذي رافقه على امتداد 33 سنة لم يفارقه خلالها حتى آخر لحظة في حياته، وقد عرف المرحوم "بين بين" بصراحته وجرأته وعدم تهيب الجلوس في حضرته.
قال "بين بين" تغيرت عادات الملك الحسن الثاني فجأة ولم يعلم أحد سبب هذا التغيير، إذ لم يعد يحلو له أن يقرأ الكتب ويناقش مجالسيه ومحاوريه حول محتوياتها كما كان من قبل، ولم يعد يدخل مع مؤنسه في مساجلات أدبية يتبادلان خلالها قرض الشعر ويتنافسان في الإتيان بالأجود من المعاني والألفاظ، تغير كل هذا وامتلك غضب مستمر الملك، وبدأ يقضي فترات طويلة من الليل والنهار في التأمل والتفكير العميق.
أضحى يفضل العزلة وانقطع عن تناول الأكل، وبلغ الحد بالمؤنس إلى محاولة دفعه لتناول ولو ياغورت أو عصير، ورغم استخدام كل ما في جعبته من ظُرف فكاهة ونفس مرحة وذهن يقظ، واستغلال ود وثقة ومحبة الملك له، لم ينجح مرارا في إقناع الملك بتناول ولو جزء يسير من الطعام خلال تلك الفترة.
ومن اللحظات العصيبة، تلك المرتبطة بسعي الحسن الثاني إلى إرغام مدريد "الفرانكاوية" على قبول المفاوضات المباشرة، حيث لم يهدأ باله إلا بعد نيل مراده.
فتحت التهديد الذي شكلته المسيرة الخضراء، في وقت كان فيه الجنرال فرانكو طريح الفراش، لم يبق أمام اسبانيا إلا قبول المفاوضات مع المغرب وموريتانيا، والتي ستنتهي باتفاقية 14 نونبر 1975 مُحوّلة إدارة الأراضي الصحراوية إلى كل من الرباط ونواكشوط في 28 فبراير 1976.
وحسب "موريس باربيي" (Maurice BARBIER) أمر الحسن الثاني ليلة 6 نونبر بإبلاغ مدريد بأن المسيرة الخضراء ستواصل طريقها، اللهم إذا قبلت الحكومة الاسبانية بداية المفاوضات الثنائية فور تسليم الصحراء للمغرب وإقرار سيادته عليها، ولم يستبعد الملك آنذاك مواجهات بين متطوعي المسيرة والقوات الاسبانية إن لم تقبل إسبانيا خوض المفاوضات، وأضاف الحسن الثاني... وفي حالة حدوث مواجهات ستضطر القوات المسلحة المغربية للتدخل، وكان هذا بمثابة تهديد مباشر وصريح، علما أن الرباط نفت ما أقر به "موريس باربيي" الذي استمر في الدفاع عن صحة ما نشره، مضيفا أن الوزير بنهيمة هو الذي تكلف بإبلاغ الرسالة المتضمنة للتهديد إلى سفير اسبانيا بالرباط، والتي كشفت مدريد عن فحواها بعد عرضها على مجلس الأمن في اجتماعه الطارئ يوم 6 نونبر 1975، ورغم هذا قامت اسبانيا كذلك بتكذيب أن تكون عرضت الرسالة المذكورة على مجلس الأمن لكنها لم تنف فحواها (جريدة "لومند" 8 نونبر 1975، ص 3).
وحسب معلومات مستقاة من أحد الوزراء السابقين فضل عدم الكشف عن هويته، خلال هذا اليوم استشاط غضب الملك، وظل متعصبا منذ منتصف نهار 6 نونبر إلى حدود منتصف ليلة 7 نونبر، ولم يجرؤ أحد على مكالمته، وحاول كل من كان بحضرته الاختفاء عن نظره بأية وسيلة، ولم يهدأ غضبه إلا حينما بلغ إلى علمه أن الاتجاه المساند للمفاوضات باسبانيا أخذ يسيطر على الموقف. آنذاك، وعلى حين غرة، تغيرت ملامح الحسن الثاني، حيث بدا منشرحا يلاطف الحاضرين بأكادير، بين مكالمة هاتفية وأخرى، إذ لم يكف هاتفه وجهاز الاتصال "الراديو" عن الرنين، فمرة يتكلم العربية وأخرى الفرنسية، وأحيانا يستعمل عبارات وألفاظ بالانجليزية أو الاسبانية. ويضيف الوزير.. وصباح يوم 8 نونبر حضر الوزير الاسباني، المكلف بالصحراء، "أونطونيو كارو مارتينيز" إلى أكادير رفقة السفير الاسباني بالرباط لمقابلة الملك قبل الشروع في مباحثات مع الوزير الأول (أحمد عصمان) ووزير الخارجية (أحمد العراقي) آنذاك، حيث تم الاتفاق على استئناف المفاوضات. وفي يوم 9 نونبر أعلن الحسن الثاني عن توقف المسيرة الخضراء ومطالبة المشاركين فيها بالعودة إلى المخيمات معلنا أن الغاية منها قد تحققت. وهذا ما حصل، إذ عادوا إلى مخيمات، طرفاية وطانطان في انتظار مآل مفاوضات مدريد وظلوا على أهبة الاستعداد للانطلاق من جديد نحو الصحراء في حالة فشلها.
رغم أن حدة غضب الملك قد انخفضت بشكل ملحوظ على امتداد يومين، سرعان ما استشاط واستطار بدءا من الساعات الأولى ليلة 9 نونبر عندما علم أن المختار ولد داداة تسرع في المساومة وحاول إفهام الملك أن بإمكانه الانحياز إلى الجزائر أو البوليساريو، وقام الرئيس الموريتاني بمقابلة الرئيس بومدين يوم 10 نونبر وطلب منه هذا الأخير، من حيث لا يحتسب وبلهجة شديدة، الاختيار بين الوقوف بجانب المغرب أو بجانب الجزائر بدون لف ولا دوران، هذا ما لم يستسغه المختار ولد دادة، ثم سعى إلى لقاء الملك، وهو ما تم يومي 12 و13 نونبر بمراكش. وبعد هذا اللقاء التحق وزير الخارجية الموريتاني حمدي ولد مكناس، بالوفد المغربي المفاوض بمدريد، ولم ينتظر الرئيس بومدين طويلا للقيام بالرد على هذه المستجدات، حيث قام يوم 11 نونبر بتفقد جيشه المرابض بـ "بشار" غير بعيد عن الحدود الجزائرية المغربية.
في ذلك اليوم غضب الملك، وارتفعت درجة غضبه عندما علم ببداية الحملة الإعلامية التي شرعت فيها ألمانيا الشرقية ضد المغرب، وكان رده سريعا، إذ قطع علاقاته الديبلوماسية معها صبيحة يوم 13 نونبر، ويضيف مصدرنا.. وجه إنذارا إلى جميع الدول المحسوبة على المعسكر الشرقي آنذاك.
ارتسمت الابتسامة على محيا الملك صبيحة 14 نونبر مع الإعلان عن فحوى اتفاقية مدريد، والذي كان بمثابة انتصار ديبلوماسي مغربي موريتاني، ثم زادت فرحة الحسن الثاني عندما بلغ إلى علمه تشجيع واشنطن لهذه الاتفاقية ودعمها.
وهذا ما تأكد في لقاء نائب كاتب الدولة، "ألفريد أطيلتون" بالملك الحسن الثاني في 22 أكتوبر، وكذلك سفر مدير المخابرات المركزية الأمريكية بالنيابة "فيرنون والترز" إلى مدريد.
وبعد الإعلان عن اتفاقية مدريد، سمحت الإذاعة الجزائرية للبوليساريو بتخصيص حصة دائمة لـ" صوت الصحراء الحرة" موجهة ضد المغرب، وحصة أخرى لـ "صوت كاتاريا الحرة موجهة ضد إسبانيا، الشيء الذي أثار من جديد موجات متتالية من غضبات الحسن الثاني المستطيرة.
الكولونيل "بوزيان" ساقي و خباز المسيرة الخضراء
لم يكن من السهل ضمان الحاجيات اليومية لأكثر من 350 ألف شخص يتحركون على الدوام في اتجاه الصحراء، سيما توفير الماء الصالح الشروب والخبز.
ويعتبر الكولونيل عبد السلام بوزيان المتقاعد حاليا، أحد الطيارين العسكريين، الذين ارتبطت حياة متطوعي المسيرة بتنقلاتهم الجوية أكثر من مرة، يوميا بين الرباط والجنوب. فقد اضطلع الكولونيل عبد السلام بوزيان بمهمة تزويد المتطوعين بحصتهم من الخبز اليومي وبالماء الشروب.
كان الكولونيل ينقل كميات ضخمة من الخبز يوميا لإطعام ما يناهز 400 ألف شخص، وذلك على متن طائرته العسكرية "C-130H".
وفي هذا الصدد قال الكولونيل عبد السلام بوزيان " أنا الطيار، الخباز الأول والطيار الكراب الأول في المغرب.. أفتخر بذلك لأنني كنت أزود المشاركين في المسيرة الخضراء بخبزهم اليومي وأروي ظمأهم.. وقد قضيت أكثر من 350 ساعة في السماء لسد احتياجاتهم من الخبز والماء".
"المسيرة الموازية"
موازاة مع المسيرة الخضراء المدنية والعلنية، عمل الحسن الثاني على الإعداد لمسيرة أخرى، لكنها سرية وعسكرية. إذ نادى رجل ثقته آنذاك أحمد الدليمي وكلفه بالعمل على التسلل إلى الصحراء برجاله، وذلك لأنه أيقن منذ أن أعلنت محكمة "لاهاي" عن رأيها وقدمت الأمم المتحدة تقريرها في موضوع الصحراء سنة 1975، أن الأرض ستعود لمن يحوزها بمجرد أن يغادرها الجنود الإسبان.
وذاك ما كان، إذ ما أن تم الإعلان عن وقف المسيرة الخضراء حتى كان الجيش المغربي بقيادة أحمد الدليمي قد رسخ أقدامه على جزء من تراب الصحراء بدءا من الشرق (عملية أحد).
عندما كانت الأنظار موجهة صوب المسيرة الخضراء، انطلق أحمد الدليمي بجيشه لضمان التواجد الفعلي على أرض الصحراء، فقبل الإعلان عن وقف المسيرة، كان قد توغل على مسافة 100 كلم في الصحراء، متقدما نحو "الفارسية" مرورا بـ "الجديرية" ثم "الحوزة" فـ "المحبس" وصولا إلى سمارة دون أدنى مقاومة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق